(1) رحم الله الدكتور المسيري، عندما زرته في بيته قبل سنوات طويلة في منتصف الثمانينات، كان مشغولا مع فريق كبير من الباحثين بموسوعته عن المصطلحات الصهيونية، وبدأ يتحدث عن المشروع الضخم، ومشاكل التمويل وعدم دقة المساعدين، لكنه فوجيء بي أمتدح ديكورات النوافذ في مسكنه، وجمال التنسيق في مدخل العمارة، وبقدرة قادر تغير صوته من الشكوى إلى البهجة، وأشرق وجهه بابتسامة طفولية، وهو يقول لي ممتنا للإعجاب بذوقه الفني: أنا اللي عملت كل ده، وانطلق يحدثني عن الجانب الفني والأدبي في شخصيته، والذي لم أكن اعرفه قبل هذا اللقاء. (2) في ذلك اليوم تعلمت أن الصورة الذهنية التي تستقر في دماغنا عن شخص، أو قضية، قد لا تكون كاملة، فهناك العديد من الزوايا التي يمكن أن ننظر من خلالها إلى الأشخاص والمواقف، بحيث تتعدد حقائق هؤلاء الأشخاص، وحقيقة تلك المواقف بتعدد وجهات النظر، وفي لقاء تال طرحت على الدكتور المسيري اكتشافي الشبابي المتحمس، فابتسم، وهو يقول بطريقته الجميلة: يعني (3) لم ترضيني إجابة الدكتور هذه المرة، فسألته: يعني إيه؟، فقال: لا تحاول استخلاص قوانين نهائية في الحياة، فالأمور تتداخل بنسب وطرق عجيبة، فهو مثلا في موسوعة الصهيونية يسعى لنزع المبالغات الدينية والفكرية عن المصطلحات الصهيونية، حتى لا يساهم العقل العربي في تضخيم أسطورة التفوق الإسرائيلي، كما أنه يحاول الفصل بين البعد الإنساني والبعد الاستعماري في الأدب الإنجليزي، وبحماس الشباب المتسرع سألته: ألست ضد الرأسمالية والغرب، فأجاب نفس الإجابة الأولى: يعني (4) مضت الجلسة هذه المرة في دروب من الحيرة والقلق، أربكتني الإجابات المفتوحة، حتى قرأت يوما وصفا للدكتور المسيري يشبه فيه الرأسمالية بنادلة حسناء في كافيه حديث، تتجمل بالمكياج وترتدي بلوزة مفتوحة الصدر وتنورة قصيرة لأنها يجب أن تقدم للزبون "المتعة"، لكنها لا تتمادى فتخلع بلوزتها، أو تبالغ في تقصير تنورتها لأنها يجب ألا تنسى أنها تقدم له أيضا "القهوة"، هكذا تمارس الدول الرأسمالية لعبتها مع "الزبون" بمعادلة تمتزج فيها "المنفعة" و"اللذة"، وهكذا تمارس النصب بابتسامة، وتذهب إلى الحرب بشعارات ناعمة عن الحرية والديموقراطية وحماية حقوق الإنسان، بل أنها تطلقها على العالم قبل أن تطلق صواريخها وتلقي قنابلها. (5) أمريكا إذن تمتعنا وهي تسرقنا، بل تمتعنا لدرجة أننا لا نسمي ما تسلبه منا "سرقة"، بل "خدمة"، فهي راعية السلام، مانحة المعونات، صاحبة المقادير التي نلجأ إليها، ونطلب حمايتها من الطغاة، مع أنها هي التي صنعتهم ووضعتهم فوق رؤوسنا.. أمريكا هذه هي التي ندفع لها من أجل حل لمأساة السوريين، وكأنها لم تكن الفاعل الأهم في تدمير سورية.. أمريكا هذه هي التي ستحل القضية الفلسطينية، بل أن الحلول المتباينة التي كانت مطروحة كمقترحات دولية ومحلية للتعامل مع مستقبل فلسطين، تبخرت كلها واختفت من الساحة الدبلوماسية والميدانية، ولم يبق إلا الحل الأمريكي الشهير بحل الدولتين.. مات حل الدولة العلمانية الديموقراطية الذي طرحته الأحزاب الشيوعية، وتوارى الحل الراديكالي العربي الذي كان ينادي (ولو بالشعار) مطالبا بتحرير كامل التراب الفلسطيني من النهر إلى البحر، وتوارت معه النظرة للصراع مع إسرائيل باعتباره صراع وجود لا حدود، ومن هذه النقطة بالتحديد يبدأ النقاش حول وثيقة حماس الجديدة، ويبدأ التحذير مما تفيده تصريحات خالد مشعل، والتي تعيد إلى الذهن تصريحات عرفات حين قرر أن يؤجل عمل البندقية، مكتفيا بالصراع حول موائد المفاوضات، فضاعت الاستراتيجية في متاهة التكتيك، وأسفرت مفاوضاته عن "كامب ديفيد فلسطينية" منحته لقباً لرئيس عربي جديد، يتيح له أن يحضر المؤتمرات، ويحصل على المعونات، ويستبدل الفدائيين بالسماسرة، ويكتفي بخيمة لا دولة. (6) كانت حماس ذراعا للمقاومة، لكن الراعي الرأسمالي أغواها بالسلطة، ولما تغلبت صراعات السلطة على القضية، وارتفعت أعلام الفصائل فوق علم الوطن الجريج، انقسمت فلسطين بين ضفة وغزة، وانتهت قدرة البندقية الفلسطينية عند تحرير القطاع من الشقيق الفلسطيني المهادن، بسلاح الشقيق الفلسطيني المقاوم، وما لم تستطع إسرائيل أن تفعله عبر حروب وهزائم عربية، فعله الأشقاء بأيديهم تحت غطاء من الخنوع العربي، واليوم تأتي حماس لتعلن قبولها بالحل الأمريكي، مع تحسينات شكلية، تعلم أنها ستذوب تحت حرارة الطريق الطويل والشاق من المفاوضات غير المتكافئة، التي شاهدنا نتائجها من "كامب ديفيد" إلى "أوسلو2" وما يستجد في "صفقة القرن"، حيث تلعب واشنطن دور النادلة المغوية على طريقة "الجاسوسة الحسناء المسلحة" فهي ترتدي التنورة القصيرة، لكنها لا تقدم للعرب أي قهوة، ومع ذلك تحصل على كل ما في جيوبهم وعقولهم. (7) إن قبول حماس بدولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو، ليس جديدا، لكنه كان فيما سبق يدخل في إطار قبول الممكن، دون التنازل عن المستحيل، كانت حماس في زمان المقاومة تغني مع أمل دنقل: "إنه ليس ثأرك وحدك/ لكنه ثأر جيل فجيل"، واليوم في لقائها بعرب "الاعتدال" تغني في الجوقة الخانعة: "خذ الآن ما تستطيع"، وتقبل بالوجود الصهيوني، وهذا ينقلها من "عرب الاستراتيجية" المعرضين للانقراض إلى "عرب التكتيك" الذين يسرفون في الحديث عن الحدود، والقبول بالموجود، لقد كانت حماس كما جاء على لسان مؤسسها وزعيمها الراحل الشيخ ياسين تتحدث عن دولة الرابع من يونيو، باعتبارها مكسبا مؤقتا في "هدنة" مع الاحتلال، اما اليوم فإن الحديث يدور عن "حل نهائي" يهدر إلى الأبد حق الحالمين بتحرير كامل فلسطين، وهو أمر لا تملكه حماس، ولا يملكه عباس، ولا يملكه طراطير الأمة التابعين في قصور الأنظمة. فلسطين الحرة من النهر إلى البحر، ملك المقاومين، وحلم الأحرار في العالم كله مسلمين ومسيحيين، ومهما تأخر الحق سيعود، فالتاريخ في هذه المنطقة لا يغلق ملفاته أبداً، لذلك أعتبر مقالي تحذيرا لحماس، وليس هجوماً عليها، وتذكيرا بالمقاومة، وليس تفريطا في المكاسب التدريجية، قد نذهب إلى المفاوضات كخطوة تكتيكية، لكن ليس على حساب حقوق أجيال لم تولد بعد، بإمكانها أن تغير موازين القوى وتتخلص من وطأة هزائمنا، وتستعيد حقوقها، فلا تثقلوا عليهم بخرائط ووثائق تترجم هزائمكم ومذلتكم يا عرب الهزيمة.. لا تتسرعوا في حلول مخجلة، ولا تجعلوا فلسطين قضية إعاشة، وتجعلوا ما تبقى منها عاهة للتسول.. فلسطين عربية، والصهيونية مهما انتصرت إلى زوال، فالعنصرية جريمة لن تدوم، وعار على الإنسانية، ولا بد من يومٍ تمحو فيه الإنسانية عارها. جمال الجمل [email protected]