يصل الرياض اليوم الرئيس عبد الفتاح السيسي للرياض للقاء الملك سلمان بن عبد العزيز كثاني لقاء يجمعهم في أقل من شهر، واللقاء الربع بينهما منذ تولي سلمان الحكم في المملكة. وتأتي الزيارة الحالية بناء على دعوة وجهها سلمان للسيسي أثناء لقاءهما الشهر الماضي على هامش القمة العربية في البحر الميت بالأردن، وهو اللقاء الذي أتى بعد وصول الخلافات بين القاهرةوالرياض لذروتها منذ أواخر العام الماضي وحتى مطلع العام الجاري، استخدمت فيها السعودية أوراق ضغط ضد مصر وصلت لقطع الإمدادات البترولية وتأليب الخرطوم ضد القاهرة. وقال بيان للرئاسة أن "السيسي وسلمان سيعقدان قمة تتناول تتناول سبل تعزيز العلاقات الاستراتيجية التي تجمع بين البلدين، والتشاور حول مختلف القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك (..) وعلى رأسها مكافحة الإرهاب الذي بات يمثل تهديداً لأمن واستقرار الأمة العربية المجتمع الدولي بأكمله". ويأتي هذا التصريح كدلالة إضافية على أولوية مشتركة تجمع القاهرةوالرياض بعد الخلافات التي بدأت منذ تولي الملك سلمان يناير 2015، ولم تفلح في إنهائها التسوية التي تمت العام الماضي إبان زيارة الأخير للقاهرة؛ بل على العكس فاقمت أزمة تيران وصنافير الخلافات بين البلدين. هذه الأولوية المشتركة تم التوافق عليها أميركياً بعد اللقاءات المتعاقبة الذي عقدها الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع ولي ولي العهد السعودي وزير الدفاع، محمد بن سلمان الشهر الماضي والرئيس المصري مطلع الشهر الجاري، والتي أعقبها زيارة جرت مؤخراً لوزير الدفاع الأميركي الجديد جيمس ماتيس في جولة لعدد لكل من السعودية وإسرائيل ومصر وقطر، شددت خلالها ماتيس على أولوية الإدارة الجديدة في مكافحة الإرهاب وتطوير التعاون العسكري والأمني المشترك بين الولاياتالمتحدة وهذه الدول وفق هذه الأولوية. وتجد الإشارة هنا أن كل محاولات حلحلة الأزمة بين السعودية ومصر طيلة الشهور الماضية لم ينتج عنها شيء، سواء كان ذلك بجهود ثنائية حثيثة أو وساطة خليجية من الكويت أو الإمارات والبحرين، فلم تفلح هذه الدول في جمع الملك والرئيس إلا بعد تبيان الرياض لموقف الإدارة الأميركية الجديدة لمختلف قضايا الشرق الأوسط والعلاقات الثنائية في زيارة ولي ولي العهد السعودي الشهر الماضي، وكذا لقاء السيسي مع ترامب قبل أسبوعين، وهو ما يستدل منه أن كل من القاهرةوالرياض كانتا تعولان على موقف الإدارة الأميركية الجديدة تجاه تراتبية التعاون كل منهما، واستبيان مدى اتساق أولوياتها مع أولويات كل منهما، وبالتالي إمكانية توحيد أجندة ذات أولويات مشتركة بالتتابع مع موقف البيت الأبيض حيال العلاقات الثنائية بينهما، ومدى الحاجة الأميركية لإنهاء حالة الخلاف بين أثنين من أهم حلفائها في المنطقة، وبالتالي يمكن القول أن لقاء السيسي وسلمان في البحر الميت يأتي في إطار حلحلة الأزمة الثنائية بين القاهرةوالرياض بتدخل أميركي بدأ باستئناف مبيعات النفط السعودي لمصر بالتوازي مع زيارة بن سلمان الأخيرة للولايات المتحدة، ويعد إرهاصة لتوحيد موقف على أساس شراكة في رؤية موحدة بين البلدين تجاه الأولويات الأميركية وما تتقاطع معه من أولويات مختلفة لكل من مصر والسعودية يجري العمل على إعادة ترتيبها. ويمكن استجلاء هذا الأمر من تحليل خطابي السيسي وسلمان الذي لم يختلف كثيراً من حيث الصورة العامة تجاه معظم القضايا التي طُرحت في الخطابين، وإن اختلافا بشكل كبير من حيث الأولويات وترتيبها. وفي سياق متصل لا يمكن إغفال أن واشنطن قد وازنت أولوياتها لتكون غير متنافرة مع أولويات حلفائها، وإن كانت أبدت في المرحلة الراهنة أولوية قصوى لمحاربة الإرهاب، وهو الأمر الذي تصدر أجندة اجتماع السيسي وترامب، وحل في ترتيب متأخر في لقاء الأخير بمحمد بن سلمان. فيما اعتبر مراقبون أميركيون أن لقاء ترامب بالسيسي كان أكثر سلاسة وتوافق عن لقاء بن سلمان نظراً لموقف ترامب المسبق من الرياض واتهامها برعاية الإرهاب وقانون "جاستا"، كذا استعجال الرياض لموقف أميركي بخصوص إيران، وميل واشنطن لأبوظبي ميدانياً وسياسياً في تسوية حرب اليمن، وتجاهل أميركي مستمر لرؤية السعودية للأزمة السورية وقنوات تسويتها. فيما كان السيسي محدداً وموفقاً في تلاقيه مع أولوية "مكافحة الإرهاب" لدى ترامب وتطوير العلاقات المصرية الأميركية في المستقبل انطلاقاً من هذه الأولوية التي لا تشكل أولوية لدى المملكة. إذن المنتظر في لقاء الغد محاولة لتجاوز أسباب الخلاف بين القاهرةوالرياض بإرجاء النقاط الخلافية لحساب الأولوية الأميركية المشتركة بين الدولتين؛ فعلى سبيل المثال يتم تجاوز حل آني لمشكلة تيران وصنافير وإمهال القاهرة الوقت لتمريرها برلمانيا وقضائياُ دون إثارة الرأي العام في الداخل، وذلك مقابل إرجاء الرياض لمسألة المصالحة التي كانت تحاول فرضها على القاهرة طيلة العاميين الماضيين مع جماعة الإخوان المسلمين نظراً لعجز الرياض عن ملاحقة التطورات في سوريا بعد تحرير حلب، واتكالها على أنقرة في تحقيق أهداف الحد الأدنى، والتي بدورها اشترطت ضغطاً سعودياً على القاهرة فيما يخص جماعة الإخوان مقابل توحيد الجهود التركية السعودية في تركيا حتى نهاية العام الماضي ميدانياً وسياسياً، وهو الأمر الذي كان أحد نقاط الخلاف الرئيسية بين القاهرةوالرياض بالإضافة للحرب في اليمن. أي أنه باختصار يمكن اعتبار الخلاف المصري السعودي بشأن كل من اليمن وسوريا قد أصبح غير ذي معنى على ضوء التطورات الميدانية والسياسية الإقليمية والدولية الخاصة بالحرب في البلدين، وأقصى ما يمكن فعله حالياً هو توحيد خطاب إعلامي أكثر منه سياسي فاعل لكل من القاهرةوالرياض تجاه الحرب في اليمن والأزمة السورية. أيضاً من المحتمل أن يجدد السيسي طرح مسألة "القوة العربية المشتركة" وهو الاقتراح الذي قدمته القاهرة كبديل عن التدخل العسكري المباشر المنفرد في سوريا واليمن عند تولي الملك سلمان، ولكنه اقتراح قوبل بتضارب واختلاف أولويات كل الأطراف المعنية به؛ فعلى سبيل المثال كانت ترى القاهرة في محاربة تمدد نفوذ داعش في ليبيا ودول عربية أخرى أولوية مهمة للقوة العربية المشتركة كبديل عن التدخل العسكري البري في اليمن أو سوريا، وهو ما كان يخالف أولويات المملكة وقتها التي رأت في التحالف مع تركيا واستخدام مصر عسكرياً في اليمن أو سوريا أفضل وأجدى لتحقيق أهدافها كأولوية مطلقة يجب فرضها على باقي "حلفاء" المملكة وعلى رأسهم مصر التي استفادت من المساعدات الاقتصادية السعودية على مدار الأعوام الأربعة الماضية. ويمكن القول بأن إحياء مسألة القوة العربية المشتركة قد يأتي من بوابة مكافحة الإرهاب الأميركية والتي دشن إطارها الأساسي جيمس ماتيس في جولته الأخيرة، أي أنها ستكون إن جاز التعبير "قوة عربية مشتركة لمكافحة الإرهاب" بإشراف أميركي ووفق الرؤية والأولويات الأميركية ومدى توافق هذه الرؤية والأولويات مع أولويات حلفاء واشنطن في المنطقة وعلى رأسهم السعودية وإسرائيل ومصر. الأمر الأهم في إطار تحسن العلاقات بين القاهرةوالرياض هو الوصول لحل وسط بين مبدأي التبعية لا الشراكة التي حاولت السعودية فرضه طيلة العاميين الماضيين، والشراكة لا التبعية الذي تمسكت به مصر. والمبدأ الأول الذي كان تغير جذري في تاريخ العلاقات المصرية السعودية منذ عقود، يأتي كأولوية لرؤية محمد بن سلمان للسياسة الخارجية لبلاده، بصفته الملك المنتظر، صاحب النفوذ عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، وكذا على والده، الذي نقلت مصادر أن موقف سلمان قبيل لقاءه بالسيسي في البحر الميت بمثابة "انتصار للجناح الراغب في استعادة العلاقات المصرية السعودية". لكن كمحصلة عامة، فإن تطور هذا الموقف إلى مصالحة بين البلدين تعيد العلاقات بين البلدين لمربع ما قبل 2015 مرتهن بمدى تخلي بن سلمان، المتصاعد نفوذه باطراد في الداخل والخارج – أخرها القرارات الملكية الصادرة أمس الخاصة بتغيرات أمنية وعسكرية وسياسية ودبلوماسية وتنفيذيه وفق معيار من رضى عنه بن سلمان في العاميين الماضيين الذي شهدوا صعوده– عن مبدأ التبعية لا الشراكة وحتى إن كان هذا بدافع من أولوية أميركية ينبغي التوافق بين القاهرةوالرياض على أساسها، أي أنه في المستقبل القريب يبقى العامل الحاسم في سيولة استئناف العلاقات المصرية السعودية لسابق عهدها هو شخص الملك سلمان، وفي المستقبل المتوسط والبعيد تخلي بن سلمان عن مبدأ التبعية لا الشراكة، وبشكل أعم وضع معادلة جديدة للعلاقات الثنائية بين السعودية ومصر لا ترتبط بأشخاص ولكن بسياسات لا تزال واشنطن هي المتحكمة في بوصلتها.