مقدمة لا بد منها بقلم ” محمد عطية ” “وليد محنتك يا فينوس”... هو عنوان أخر ما كتب جوركي الإسكندرية “أحمد محمد حميدة”، وهي أول وأخر مقالة يرصد فيها وعيه، رؤيا ما في متن عمل سردي قرأه، برغم حضوره العريض بالتعليق والمشاركة كمداخل رئيس في كل ما يحضر من ندوات للقصة والسرد في جميع لقاءات الإسكندرية الأدبية، وجميع المحافل الأدبية التي كان يحضرها في كافة ربوع الوطن، على مدار أكثر من 40 عاما.. دون أن يحاول أن يسجل رأيه على الورق إلا لماما أو ببعض الملاحظات السريعة القصيرة الثاقبة والموجهة في ذات الآن.. إلا هذه المقالة التي أسميها “مقالة الوداع”، والتي تسلمتها منه مخطوطة بخط يده (ومازلت محتفظا بها بخط يده كذكرى غالية) قبل وفاته بحوالي أسبوع، في يوم لم أحسبه أبدا “يوم وداع” لأعز الصحاب والخلان ورفقاء الدرب الشاق المضني/ درب الأدب والمعاناة، على مقهى بالورديان قرب بيته في شتاء غمر الإسكندرية ووضأها، وكأنما كان يوضئه هو ويعد روحه للرحيل .. وقد بدا لي في أتم صحة وعافية يملأه الشباب والحيوية، لأرقنها له على الكمبيوتر ليشارك بها في ندوة بمختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية، موعدها بعد أسبوع (!!!!) .. ولكم أن تلمحوا معي ما يخبئه أحمد حميدة من رثاء لنفسه في متن هذه القراءة/ الرؤيا العجيبة الثاقبة الكاشفة لمفاتيح العمل، والتي تميط اللثام أيضا عن مدى إحساسه بدنو أجله، ورجوعه إلى رحم فينوس الرواية / الأرض الأم.. وهو جانب شديد الأهمية في حياة مبدع حقيقي عانق الألم المادي والمعنوي معا، فكانت شهادته / رؤيته رثاء له من ذاته / روحه الشفيفة التي ترفرف حولنا الآن... “وليد محنتك يا فينوس” رؤية في رواية “محنة فينوس” للعراقي أحمد خلف “كأنني غير موجود، لم أخلق بعد، أو لعله يعد لي حياة أخرى، أو لأصبح بطلا من أبطال الأولمب..” توا خرجت من أحشاء فينوس الفاتنة، لأرى الذي كوّن نطفتي جورا واغتصابا، مارس اللعين إله الحرب والدمار.. لم أره، لكنني شهدت ما جرى وما كان.. ولم تركني الراوي وحيدا في الجوف، أو تجاهلني وهو السارد العليم بكل شاردة وواردة، القابض بمهارة فنان على خيوط اللعبة والحكايات المدهشة.. راوي يأخذني عبر سطوره لأغوص في الأزمنة البعيدة، السحيقة، أزمنة أثينا، أربابها، والأباطرة، آلهتها الصغار، يغوص بي لوقائع الألم.. كأن الرواية آلة زمن دوارة، بمجرد تسلقي للسطور أكون هناك.. وبسطر آخر أنتقل إلى هنا، ليريني واقعا آخر مأساويا أشد قسوة وضراوة عما كان بزمن حروب أثينا.. وبذهني المتشظي غدر مارس الغائر بصولجانه المسروق من زيوس، لمرة ثانية في رحم فينوس.. كمن يبحث عني، إن كنت مازلت عالقا بالرحم، أو قتلتني حنقا عليه.. لكني بالجوف كنت لأشهد جبروته ودهاءه لأبيها زيوس رب الأرباب، فيما تجاهد هي لإخفاء حملها، تواريني، لكنني أتسلل منها، أرتقي أحصنة سطور الراوي الجامحة، أتتبع خطوه، خطوة بعد خطوة، منتظرا أين سيلقيني.. لكنه لم يبال، كأنني غير موجود، لم أخلق بعد، أو لعله يعد لي حياة أخرى، أو لأصبح بطلا من أبطال الأولمب.. تجاهلني، فيما أبصره، أرقيه عن كثب، وهو يلعب لعبة الضمائر، المتكلم والغائب، المضارع والديالوج، الذهاب والعودة بإتقان متمرس، قدرته السلسة على إدارة الأحداث بحذق واضح.. توجيه شخوصه.. وأنا على يقين من أن الشخوص هي التي توجه فكره المتحمس وقلقه السيال، فيسرد قصصا مرتبط بعضها ببعض رغم اختلاف الأزمنة واتساعاتها الشاسعة، لم تتغير منذ عهد أثينا، حروب وراء حروب، إلى يومنا هذا، قمع وجور، قهر ورجوع.. في متن الرواية.. طاحنا شعوب وراء شعوب.. لنعود لنقطة الصفر.. ضرب وجوع، ضرب وسحل، جور وضرب، وموت.. وموت... فالأزمنة انطوت على معارك آلهة وملوك غلاظ وعميان، جبابرة، طغاة، ناعسين على نهود المتعة، وغافلين مثل زيوس رب الأرباب المستغرق في شهد وعسل خادمته وخليلته منيرفا، تائها، مغيبا عن مأساة رعيته، شعبه المطحون بالجوع والبرد والتشرد في الفيافي بعد تدمير مساكنه وإحراق مزارعه، تحت أنظار آلهة يضحكون، وجبابرة يتجسسون، يتوقون لسماع لفظ من أحد الرعية بسب الآلهة.. أرى، وحين يعتصر روحي الألم وينفطر قلبي من المشاهد المريعة.. يعيدني الراوي لأرض واقعه، وطنه الأشد فظاعة، الأكثر بطشا، المضروب بأسلحة غزاة جبارين، يفتكون بالمدن بآلات مستحدثة، لم تكن موجودة بأزمنة أثينا، بقنبلة واحدة تبيد وطنا بحاله... راوي جموح لا يفتر حماسه، طائش الخيال، مقاتل بقلم، لم يترك لي فسحة لأخذ النفس.. يأخذني، يريني عشق كيوبيد لفينوس بلحظات حب لن يكتمل.. ثم يرميني لأجواء آلهة أغبياء، قاهرين، ويعيدني لآلهته الأكثر ضراوة.. وأنا بين الأزمنة أتعذب تائقا للعودة لأحشاء فينوس.. راوي أبدع تصويره لانتكاسات العراق، فما جرى في العراق كان جحيما.. جحيم كان الراوي يخفف من نيرانه على روحي بحواديت آلهة أثينا التي لم نرها، لكن تخيلتها جنة نعيم بوجود فينوس التي لم يرحم جمالها إنسان، يغازلني الراوي بها.. إن كانت خيالات، أو حقائق ما يسرده.. لكن العراق حقيقة معاصرة.. راوي وفق كل التوفيق في اختيار أثينا، لتلعب بها لعبة الإسقاطات الممهد لها بحنكة على عراقه المغتصب، المنهوبة ثرواته، طمس تاريخه المجيد.. نعم حقائق بشعة يغلفها بحواديت ليبعد عني الملل، برغم احتواء المرارات لبدني الوليد.. يراوغني بفن سهل التناول.. يسليني بعذابات أبشع، ليريني مدى تمزق شمل العالم العربي، المستكين بعضه تحت إبط الغرب الملعون تحت نظر رب الأرباب ومنيرفا.. راوي استطاع أن يسيطر على كياني مثلما سيطر على شخصياته.. شدني، منذ تواجدت على متن الرواية، منبها بصراحة، كأية كتابة جديدة أنه موجود ومشارك، لن يترك القاريء وحده، وسيطل برأسه من بين السطور كثيرا.. وأنا خلفه أرصده، أشاركه حين يلعب لعبة تداخل الأزمنة ومزجها. أوقن من ذلك عندما ذكر أسماءً لم تكن موجودة بزمن أثينا،مثل اسم محمد، وقاسم، وعبد الله.. أشهد ببراعته، وأنا أزحف فوق السطور، أبحث عن فينوس التي غابت.. يصادفني الراوي بحكاية عجيبة، يقطع بها طريقي، كمن يسليني، بقصة مشوقة، أعتقد أنها دعمت أعمدة الرواية، أثقلتها، كشفت عن وجود سدنة العصر القبيحة، وأرعدت قلبي، بشخصية غريبة مسماة (لا أحد).. مدهشة مكتوبة جيدا، مروية على لسان سجين من سجناء القمع المعاصر، القهر الحديث، سجناء الموت للموت، الموت بلا شهادة أو شاهد، الموت الجماعي الساحق الماحق، من سدنة عصر العولمة، الموت سرا، الموت تعذيبا حتى إزهاق الأرواح داخل زنزانة ضيقة، حتى إذا هامت أرواحهم في الأجواء اختنقت بالبارود والرصاص، سحلوهم جماعة بليل جاثم غشوم، ألقوا بهم في مقبرة كبرى، وأهالوا عليهم التراب.. لكن أحدهم كان لا يزال حيا، عافر الأتربة وما فوقه من جثث، وقام على حذر بالليل القاتم، وهرب عبر الأزقة والدروب، عاريا، خجلانا ومشدوها، صادفه رجل بطريقه، أخذه، احتواه، خبأه، وأطعمه، وأنامه عنده، وذهب للبحث عن أسرته.. ولما عثر عليها، بعد مدة، اصطحب ضيفه الهارب، المعتبر في عرف جلاديه ميتا، اضطر مع خوفه لمحو اسمه من ذاكرته، وهو بقعر بيته، بين أسرته، نافيا ذاته بذاته، حتى عندما ذهب الراوي بصحبة صديق الرجل، ليريه ما لا يصدق، يريه قهر الحاكم لفرد من شعبه، دق الصديق باب بيت الرجل.. فتحت الباب فتاة صغيرة.. سألها الصديق عن الرجل فأنكرت وجود أي رجل بالبيت، والدها ذهب ذات يوم لمشوار ولم يعد.. لكن الصديق قال للبنت بين دهشة الراوي: “أريد رؤية لا أحد...” عندئذ دخلا، وخرج إليهما (لا أحد) من مكمنه وراح يسرد لهما قصة سجنه وهربه.. وأنا أشك أن قصة (لا أحد) ابنة خيال الراوي، لأن الواقع المرير فيه من الغرائب ما هو أكبر من الخيال، خاصة في عهد ضياع حق الإنسان العربي.. حكاية أثرت الرواية.. غفرت للراوي، الكاتب، الذي ألهث خلفه، بعض إسهاب في روايته الحداثية، كما غفرت له الاتكاء أحيانا على الأسلوب المنفلوطي.. وذلك استثارني لأشحذ تفكيري، أحدث روحي التائهة خلف فينوس.. إلى متى سيظل العالم العربي يفتح ذراعيه لاحتضان الغرب؟.. إلى متى سيظل تحت حكم الغزاة؟ .. ألا يكفي إذلاله وقهره من عهد أثينا زيوس حتى الآن؟.. أهناك معجزة منتظرة من رب الأرباب، بينما المعجزات يمكن صنعها بأيدي وعقول الأخوة العرب لو اتحدوا. “أثينا كان أسيادها هم كلابها وذئابها”.. كان الراوي يقول، ويقول “لم يطل سفري للوصول إليها” لأثينا أو العراق، وقال.. “إن عشرات الأقوام الغازية جاءت تكشر عن أنيابها أمام عتباتها”.. نعم دمر العراق عملاء وجواسيس وخونة من أبنائها، مثلما فتحوا، زمان، للإنجليز أبواب مصر، فتحوا لأمريكا أبواب العراق، فلا تأملوا في معجزات أخرى تأتيكم من السماء، فزيوس هام، حارب مارس ودفنه تحت الأرض ونام.. وظلت الأرض لأصحابها، من عليها، فليحملوها، قبل أن يأتي الغزاة، ويمتطوا ظهوركم، وأنا سأمضي بعيدا عنكم.. سأعود لأحشاء فينوس الفاتنة.. سأعود للرحم الآمن.. لكن حين أردت العودة.. كانت فينوس اختفت، ضاعت، ربما ذهبت تبحث عن موطن آخر، أو إله أكثر وعيا، أكثر يقظة.. سأذهب، وأبحث عنها.. “أحمد حميدة”