"كان واسع الاطلاع، كثير النكات والنوادر، يروي القصة بتواريخها وأسماء أصحابها وأمكنتهم، ومن غريب ذاكرته أنه كان إذا نظم الشعر لا يكتبه بيتًا بيتًا، بل كان ينظم القصيدة في ذاكرته، ثم يكتبها، وقلما طالع كتابًا، واحتاج إلى مطالعته مرة ثانية". هكذا جاء وصف ناصيف اليازجي في مصادر الدراسة التي تناولته. وهب ناصيف اليازجي نفسه وحياته للغة العربية، فوهبته هي الأخرى حياة عظيمة بعد رحيله، حاول بقدر ما استطاع أن يقدم شيئًا لأهل عصره من خلال إحياء تراث اللغة العربية والعودة بها إلى سيرتها الأولى من السيادة والريادة، فكان يحاول بشكل كبير مجاراة القدماء في مؤلفاته ونظرته للغة العربية، فأصبح علامة بارزة وعلمًا من أعلام النهضة في القرن التاسع عشر. إنه ناصيف بن عبد الله بن جنبلاط بن سعد اليازجي اللبناني، حمصيّ الأصل، ولد في قرية كفر شيما من قرى الساحل اللبناني في 25 مارس سنة 1800 من أسرة اليازجي، التي نبغ كثير من أفرادها في الفكر والأدب. ولد ناصيف في بيئة شجعته على المطالعة والقراءة، ورغم أنه كان من الصعب عليه أن يحصل على الكتب المطبوعة، فقد كان يعتمد على الاستعارة من المكتبات، ويقرأ ما يريد أن يقرأ وينسخ بخط يده ما يريد أن ينسخ، فكانت ثمرة جهده أن نظم الشعر وهو في سن العاشرة. اتصل بالأمير بشير الشهابي الكبير، أمير لبنان، فقرّبه إليه، وجعله كاتبًا له، فلبث في خدمته 12 عامًا، وعندما خرج الأمير بشير من لبنان عام 1840، انتقل اليازجي بأهل بيته إلى بيروت، فأقام بها، وتفرغ للمطالعة والتأليف والتدريس ونظم الشعر ومراسلة الأدباء، فذاع صيته. لم يتوقف عطاء اليازجي على خدمة اللغة العربية، بل امتدت مساهماته إلى ترجمة الكتاب المقدس، فشارك في أول ترجمة عربية للكتاب المقدس في العصر الحديث، وهي الترجمة التي قام بها الأمريكيان سميث وكرنيليوس فان ديك. ظل اليازجي مساهمًا في الحراك الثقافي العربي إلى أن أصيب بجلطة، كانت سببًا في شلل النصف الأيسر من جسده، وأثناء مرضه فقد ابنه الأكبر الشيخ حبيب وهو في سن الشباب، فلم يطل مقام اليازجي بعد ذلك، حيث لحق بابنه بعد 40 يومًا في فبراير عام 1871، تاركًا خلفه الكثير من المؤلفات التي شملت الصرف والنحو والبيان واللغة والمنطق والطب والتاريخ، كما ترك ديوانا شعريا متنوع الموضوعات، ومراسلات شعرية ونثرية منها "نار القرى في شرح جوف الفرا" في الصرف والنحو، و"فصل الخطاب في أصول لغة الأعراب" وهي رسالة في التوجيهات النحوية، و"عقد الجمان في علم البيان"، وغيرها من الأعمال التي تدل على جهده الوافر وعلمه الغزير.