لا يمكن أن نجد مبالغة في قول معظم المحللين والباحثين المتخصصين في العلاقات والصراعات الدولية، أن 2016 هو العام الأصعب في تاريخ العلاقات الأميركية – السعودية، ليس فقط على مستوى الخلافات الأولى من نوعها والتي تراكمت وزادت حدتها في السنوات الأخيرة حول سياسات واشنطن في المنطقة ورأي الرياض بأن الأولى لم تعد تتكفل بحماية المملكة وأسرتها الحاكمة ومصالحها كما دأبت على هذا منذ اتفاق كوينسي في أربعينيات القرن الماضي، ولكن وصل هذا العام إلى مربع التصادم على مستوى وجودي؛ بالطبع ضد الرياض التي وجدت نفسها خلال 2016 بانتظار محاكمة بتهمة التورط في هجمات 11 سبتمبر، وكذا نمو صناعة النفط الصخري التي تهدد اقتصاد المملكة الريعي القائم على بيع النفط الخام، وأخيراً دعوة الرئيس الجديد، دونالد ترامب، إلى وقف استيراد النفط من خارج الولاياتالمتحدة، وهو ما زاد الطين بلة بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية، التي دعمت فيها المملكة خصمته، هيلاري كلينتون، لتتضاعف خسائر مقامرات السعودية هذا العام على كافة المستويات والملفات الخارجية والداخلية، وعلى رأسها تدهور العلاقات مع واشنطن. وقبيل الأسباب المباشرة السابقة ومدى تأثيرها على سوء وتدهور العلاقات الثنائية بين البلدين، لفت العديد من الباحثين والساسة طيلة الشهور السنوات الماضية وهذا العام أيضاً، إلى انتهاء الدور الوظيفي للسعودية في خارطة المصالح الأميركية، بل أن كُلفة التعهد الأميركي بحماية السعودية وحكامها تخطت ما يمكن أن يوصف بعائد مربح للسياسات الأميركية، فعلى الرغم من النفط الرخيص واستيراد الأسلحة بمليارات الدولارات سنوياً، وكذا حجم الاستثمارات السعودية في الولاياتالمتحدة واحتياطها النقدي وسندات الخزانة التي تقارب تيريليون دولار، فإن المملكة شكلت وخاصة في السنوات الأخيرة محرك مشكلات وقلاقل لواشنطن على صعيد استقرار المنطقة، وذلك بالتوازي مع طموح غير عاقل وغير واقعي لتصدر الرياض لقيادة "العالم العربي والإسلامي" والتعامل بصفة ولي أمر المنطقة، وفي سبيل ذلك فتحت على نفسها وعلى المنطقة سيل من المقامرات والمغامرات الغير محسوبة، بداية من التدخل في سوريا ودعم المسلحين هناك، وختاماً بحرب اليمن التي أثبتت فشل النظام العالمي في وقف جريمة هي الأبشع منذ بداية القرن الجاري، وبسلاح أميركي، وتأجيج الصراع الطائفي في المنطقة انطلاقاً من صراعها مع إيران، وأخيراً عدم جدوى الدور السعودي في تنفيذ أي سياسات أميركية في العقود الأخيرة دون أضرار جانبية تفوق في حجمها وخطورتها ما قدمته الرياض من دور "إيجابي" في خدمة واشنطن؛ وأبسط مثال على هذا دعم السعودية ولعبها دوراً هاماً في حرب أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي، والذي أفضى في النهاية إلى نشأة أجيال من الإرهابيين بدأت بقاعدة أسامة بن لادن، وانتهت بخلافة أبو بكر البغدادي. ناهيك عن دور الرياض الدءوب في نشر التطرف حول العالم بدعوى نشر "الإسلام الصحيح". السابق ويزيد جعل تساؤلات من نوع "متى ستنهار السعودية؟" "هل السعودية بإمكانها الاستمرار كشريك استراتيجي لواشنطن؟"، "ما هو مستقبل الحكم في السعودية؟" "هل تستعد واشنطن لانهيار السعودية؟"، وغيرها من الأسئلة التي تطرح علامات استفهام وجودية حول المملكة ومستقبلها وليس حتى أدائها السياسي واستقرارها الداخلي، أمر اعتيادي يجري على ألسنة وأقلام الساسة والخبراء والباحثين في أروقة السياسة الدولية والأميركية منها على وجه الخصوص، وخاصة أن انتقاد السعودية على لسان ساسة أميركيين وبشكل علني لم يعد أمراً غريباً، فانتقاد أوباما في حواره الأخير مع مجلة "ذي اتلاتنك" للمملكة حمل ظاهره وباطنة تحذيرات من مدى تهور سياسات المملكة ومحاولتها الدائمة لجر واشنطن لمعارك غاصت في أوحالها وأخرها حرب اليمن، وإن الوتيرة المتزايدة من التهور السعودي المتمثل في تقلب وعشوائية بوصلتها الخارجية وتخلف أدواتها قد ضاعف أزمتها الموضوعية المتمثلة في الانهيار الاقتصادي الوشيك والذي بدأ منذ 2014، ليصبح الجدال التقليدي حول المملكة هو مناقشة بقائها في المستقبل القريب. في هذا السياق يقول جون حنا مستشار العلاقات الخارجية لنائب الرئيس الأميركي السابق: "لا أحد يستطيع الرهان على زوال بيت آل سعود في وقت مبكر. على مدار عقود، أظهرت العائلة الحاكمة قدرة على البقاء في مواجهة التيارات السياسية والإيديولوجية والعسكرية التي جرفت أنظمة أخرى. لذلك توقع أن العائلة المالكة قد تكون على وشك صدمة حقيقية هو نوع من التفكير الساذج. ما نقوله هو أن الأخطار ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد. البيئة الإقليمية التي تواجه المملكة ربما لم يوجد لها مثيل في عدائيتها. الشرق الأوسط ينهار، ونظام الدولة قيد سقوط الحر. تحول الربيع العربي منذ فترة طويلة إلى شتاء إسلامي. المحور العسكري الإيراني الروسي متعطش للهيمنة والولاياتالمتحدة في طريقها للخروج تاركة خلفها حلفاء مدمرين معنويا مع خصوم يمتلكون الكثير الجرأة والرغبة في إحداث الفوضى. وفي نفس الوقت، كما هو موضح أعلاه، فإن التحديات التي تحدق بالمملكة داخليا تتصاعد ببطء.استدعاء أي قائمة من علامات التحذير بأن المجتمع قد اقترب من مرحلة الخطر فيما يتعلق بعدم الاستقرار هو أمر ممكن ويطابق فعليا ما يحدث اليوم. تزايد الانشقاقات بين النخبة.. الغرق في حرب خارجية مكلفة.. زيادة الضغوط الاقتصادية.. علامات تآكل الشرعية.. القوة الصاعدة من الجهات الفاعلة الأجنبية.. ذلك إضافة إلى تلاشي الحماة الخارجيين التقليديين. بالطبع، فإنه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، قياس ما إذا كان أي من هذه العوامل هي قاب قوسين أو أدنى من أن تصير نقطة تحول بالنسبة للسعوديين. مرة أخرى، إذا كان التاريخ دليلنا، فإنها هذه العلامات لا تقود لشيء حتمي أو يقيني. ونحن قد نكون لا نزال في مراحل مبكرة جدا لاتخاذ القرارات الحكيمة في الوقت المناسب. ما يبدو آمنا قوله هو أن معظم المؤشرات الرئيسية تظهر الآن في وقت واحد أن المملكة تسير في الاتجاه الخاطئ ربما للمرة الأولى في تاريخها. وبهذا المعنى، يمكن أن يكون هناك خطر أكبر مما كان عليه في الماضي إذا ترك الأمر دون معالجة هذه الآثار السلبية التي قد تبتلع النظام. نعم، احتمال حدوث المخاطر الأسوأ قد يكون منخفضا إلى الآن. ولكن عواقب عدم الاستقرار على نطاق واسع في المملكة يحتمل أن تكون ضارة جدا على مصالح الولاياتالمتحدة. إذا كانت الأمور تبدو سيئة الآن في المنطقة فإن انهيار السعودية سوف يجعل جميع الأزمات الحالية ضئيلة بالنسبة له".
وبخلاف السابق، فإن التحولات الدراماتيكية تمكنت من المملكة، سواء الداخلية أو الخارجية؛ فبالنسبة للأولى كان الصراع –ولا يزال- داخل البيت السعودي على الحكم محرك لتوجهات المملكة الخارجية وخارطة تحالفاتها الإقليمية، فمثلاً بعدما كانت الرياض على خصومة مع تركياوقطر منذ بداية "الربيع العربي" بدافع من تخوفها من استفحال نفوذ هذين البلدين على حسابها ودعمهما لصعود جماعة الإخوان إلى الحكم في مصر وتونس واليمن، وهو ما دفع الملك عبدالله إلى تعديل أولويات السياسية اللحظية للمملكة لأن يكون الصراع مع إيران يسير بنفس اتجاه محاولة حصار النفوذ الإخواني الصاعد، ولكن هذا تغير بعد وفاة عبدالله والتغيرات التي حدثت داخل البيت السعودي، لتعود البوصلة السعودية إلى سابق عهدها في معاداة إيران حصراً والعمل المشترك مع كل الأطراف الإقليمية على هذا الأساس بما فيها قطروتركيا بل وحتى إسرائيل، وهو ما جعل شراكة المملكة مع دول مثل مصر تتعرض لاهتزازات ليست بالهينة خلال العام الماضي، الذي شنت فيه المملكة حرب على اليمن، وعملت على تخفيض سعر النفط بغية الإضرار بالاقتصاد الإيراني-الروسي، وإجبار الولاياتالمتحدة على إعادة النظر في سياساتها للطاقة بعيدة المدى التي سوف تعتمد على النفط الصخري الأميركي الذي كان قد بدأ بالفعل في منافسة النفط السعودي، وهو ما يعني للرياض استغناء الولاياتالمتحدة عنها كمصدر للنفط طالما كان محدد للسياسيات وطبيعة العلاقات بين البلدين. أخيراً وليس النهاية، مثل انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، الذي بدا أنه معادياً لكثير من التوجهات السياسية الحاكمة للعلاقات الأميركية –السعودية، ومدى تغلغل نفوذ الرياض في واشنطن، وتأثير المال السياسي السعودي في دوائر الحكم وصناعة القرار الأميركية، أضف لذلك مسألة تورط الرياض في هجمات سبتمبر وقانون «جاستا» مؤخراً، ناهيك عن أن الحد الأدنى لمستقبل العلاقات بين البلدين هو سقف القطيعة التي نتجت عن توجهات إدارة أوباما، المتمثلة في الفصل بين السياسات الأميركية وأهدافها وتحقيقها في المنطقة حتى وإن كان هناك خلاف مع "الحلفاء" في الخليج وعلى رأسهم السعودية، سواء كان خلاف على السياسات نفسها أو طريقة تنفيذها، فما الحال في مع إدارة أميركية جديدة تحت قيادة ترامب، الذي بنى معظم خطابه السياسي الخارجي الخاص بالمنطقة إبان الحملة الانتخابية، على الهجوم على السعودية وانتقاد منافسته الخاسرة، هيلاري كلينتون، من ثغرة علاقاتها بآل سعود. وبشكل عام، فإن مبعث القلق السعودي من التحول المزمع الذي وعد به ترامب ناخبيه يكمن في عدم وضوح سياسات الأخير المستقبلية، التي لم تكن محددة وإنما عبارة في مجملها عن شعارات ولافتات ووعود دون تفاصيل أو برنامج، ولذلك فإن الرياض تعوّل حالياً على مراجعة تصريحات ترامب "النفطية" إبان حملته الانتخابية، وإحباط أن تتحول هذه الشعارات والتصريحات إلى سياسات عامة إستراتيجية، وهذا الأمر نفسه ينطبق على أكثر من ملف وقضية تتماس فيها المصالح الأميركية مع السعودية أو تتضاد، ولكن كلها رهن ما ستؤول إليه سياسات ترامب بعد دخوله البيت الأبيض، والذي يبدو أنه سيتستهل 2017 باعتباره العام الأصعب في تاريخ العلاقات بين البلدين.