لسبب أو لآخر كان الشيخ حسن البنا مشغولاً ب«القوة» واستخداماتها منذ نشأة الجماعة.. فى ذلك الوقت وبسبب الصراعات الحزبية كانت كل القوى السياسية تسعى لتأمين مقارِّها، ومؤتمراتها، وكانت بعض الزعامات تلجأ للحراس المحترفين لتأمين حياتها.. حتى إن الملك فاروق نفسه شكَّل ما سمى ب«الحرس الحديدى» لحمايته من المعارضة والجماعات المتطرفة، وضرب خصومة فى الوقت ذاته.. ومعروف أن الذى شكل له الحرس الحديدى واختار أعضاءه من ضباط الجيش المشاغبين هو د.يوسف رشاد الضابط بالجيش والصديق الشخصى لفاروق وزوج ناهد رشاد كبيرة الوصيفات.. وقد ضم الحرس الحديدى عددًا من الضباط المغامرين على رأسهم سيد جاد، ومصطفى كمال صدقي، وأنور السادات وحسن التهامى وعبدالقادر طه.. ولكن الشيخ حسن البنا كان يبحث عن القوة بمفهوم آخر.. لعل رسالته «نحو النور» عام 1936 تحت عنوان: «الإسلام والقوة والجندية» توضح الأمر أكثر: قال «تحتاج الأمم الناهضة إلى القوة، وطبع أبنائها بطابع الجندية.. ولا سيما فى هذه العصور التى لا يضمن فيها السلم بالاستعداد للحرب.. والتى صار شعار أبنائها جميعًا «القوة أضمن طريق لإحقاق الحق».. والمعنى واضح فالقوة فى نظر الشيخ البنا ليست مجموعة من الحراس.. ولكنها تعنى أكثر من ذلك.. تعنى تجييش الجيوش.. وبناء القوة المحاربة.. ثم يلجأ كعادته إلى الإسلام لتبرير ما يقول به وينادي.. فيقول: «والإسلام لم يغفل هذه الناحية، بل جعلها فريضة محكمة من فرائضه، ولم يفرق بينها وبين الصلاة والصوم فى شىء.. وليس فى الدنيا كلها نظام عنى بهذه الناحية لا فى القديم ولا فى الحديث كما عنى بذلك الإسلام فى القرآن.. وفى حديث الرسول وسيرته».. وحتى يتم تمرير الأمر دينيًا أطلق الشيخ لفظ «الجهاد» على دعوته لبناء القوة.. وحدد أركان دعوة جماعته فى: العلم والتربية.. والجهاد.. وقال: «دون استعداد كل فرد فى الجماعة للجندية لا يكون شيء».. وواضح لكل ذى عقل أنه ينشئ جماعته على أساس الجندية والاستعداد للقتال.. وجعل للعضوية مراتب.. أعلاها مرتبة «المجاهد».. واشترط فى العضو القدرة على الصبر والكتمان وحفظ السر.. وأخضع كل الأعضاء فى نشاطهم الأسبوعى ليوم «الجندية» استعدادًا للجهاد المقدس.. وكان يرى أن الاستعداد بالتسليح والتدريب أمر ضرورى ليعرف الأعضاء معنى الجهاد.. وكان يقول دائمًا: «الحق القوى سلطان لا يقهر والحق الضعيف خفى لا يظهر». وفى رسالة المؤتمر الخامس يحاول حسن البنا أن يرد على الاتهامات الموجهة لجماعته باستخدام القوة والعنف فيكتب تحت عنوان «الإخوان والقوة والثورة»: ويتساءل كثير من الناس: هل فى عزم الإخوان أن يستخدموا القوة فى تحقيق أغراضهم والوصول إلى غايتهم؟ وهل يفكر الإخوان فى إعداد ثورة عامة على النظام السياسى أو النظام الاجتماعى فى مصر؟ «ثم يعد بالجواب الشافي.. فيراوغ قائلًا: القوة شعار الإسلام، فى كل نظمه وتشريعاته.. فماذا تريد من إنسان يتبع هذا الدين إلا أن يكون قويًا فى كل شيء.. فالإخوان لا بد أن يكونوا أقوياء ولا بد أن يعملوا فى قوة».. ثم عاد يقول إن استخدام القوة له ظروفه وشروطه.. وأن آخر الدواء.. الكيّ.. وهو بذلك لم يقل شيئًا.. ولم يجب عن الأسئلة التى طرحها باعتبارها مما يشغل الناس.. والكلام فى جملته مبهم.. مراوغ.. يحتمل أكثر من معني.. ولعله قد بلغ مبلغه فى المراوغة.. والغموض عندما وجه نداءه لأتباعه: «أيها الإخوان.. إن الأمة التى تحسن صناعة الموت، وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة، يهب لها الله الحياة العزيزة فى الدنيا والنعيم فى الآخرة، وما الوهم الذى أذلنا إلا حب الدنيا وكراهية الموت، فأعدوا أنفسكم لعمل عظيم.. واحرصوا على الموت توهب لكم الحياة».. وهناك سؤال لم يطرحه الشيخ حسن البنا ولم يجب عنه وهو: الجهاد ضد من؟ وكعادته يتركها البنا لفطنة المتابع.. فقد قسَّم المسلمين إلى أربعة أقسام: مؤمن، ومتردد، ونفعي، ومتحامل.. وانطلاقًا من ذلك يكون الإخوان هم المسلمون.. وجماعتهم هى جماعة المسلمين، وإمامهم هو إمام المسلمين والخروج عليه أو على جماعته هو خروج على جماعة المسلمين أى خروج على الإسلام ذاته.. وكان البنا يذكر دائمًا أن أى معارض له من الخوارج و«يتوجب ضربه بالسيف».. ووفق هذا الحكم الإخوانى فليس أمام المواطن إلا أن يكون عضوًا فى الإخوان.. أو عدوًا لهم!!!. وفى مراوغة لا مثيل لها يقول صلاح شادى فى تبرير تدريب الإخوان على السلاح إن القوة فى النظام الإسلامى مطلب مقصود لذاته لحفظ معنى الرجولة.. وأن دعوة البنا للقوة فى مظاهر تنظيماته المختلفة لا تعنى بالضرورة التخريب وقلب أنظمة الحكم.. ورد عليه السيد يوسف بأن قوة الإخوان استخدمت أساسًا فى صراعاتها الداخلية ضد خصومها الحزبيين وفى أعمال عنف وتخريب واغتيالات.. بل فى تصفية جسدية لبعض أعضائها.. وعندما كانت الحركة الوطنية تشتد حاجاتها إليهم، نراهم يخلقون معارك جانبية تصرف الأنظار عن المعركة الأساسية لتصب طاقتهم فى النهاية فى خدمة القوى الرجعية والاستعمار. ولعل أغلب المتابعين والمحللين المعنيين بالإخوان والمقربين منهم يرجعون كل ما جرى على مستوى التنظير.. وأيضًا على مستويات الفعل إلى أن البنا كان يسعى ومنذ البداية للسلطة تحت شعار «حكومة إسلامية» وقد اتبع فى سبيل ذلك طرقًا شتي.. منها القوة، ومنها البرلمان، ومنها مصانعة القوى السياسية المؤثرة فقد صانع القصر «لحرصه على الدعوة وليس من باب العمالة»، وعادى الوفد لأن الأمة ملتفة حوله وهو ما يشكل عقبة أمام تحقيق حلم الإخوان.. وقال آخرون إنه ليس صحيحًا أن الإخوان تحولوا من الاشتغال بالدين والتربية الإسلامية إلى العمل السياسى، بل إن البنا فكر فى إقامة «التنظيم السري» عندما فكر فى الدعوة.. أى ولدت الفكرة مع الدعوة فى السنة الأولى منها.. لأن البنا كان يرى أن الاستعداد بالتسلح والتدريب أمر ضرورى ليعرف الأعضاء معنى «الجهاد» ولاكتمال الدولة وتنفيذ أمر الإسلام.. وأيضًا لأنه كان معجبًا بالشيخ «عزالدين القسام» فرأى إنشاء هذا الجهاز لإيمانه بأن أى حق فى الدينا لا تحميه قوة يعتبر حقًا ضائعًا.. كما قال فهمى أبوغدير عضو مكتب الإرشاد فى زمن البنا.. أما المستشار محمد سعيد العشماوى فيؤكد أن تيار العنف بدأ فى مصر مع نشأة الإخوان.. وأن اتجاهات تسييس الدين بالعنف والإرهاب بدأت فى مصر منذ أواخر عشرينيات هذا القرن.