كان والده 'الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا الساعاتي'مأذون المحمودية بحيرة، وإمام مسجد القرية، وصاحب محل لإصلاح الساعات.. كثير الحديث عن طفولة ولده 'حسن'.. يروي وقائع وقصصا تضفي علي ولده هالات من القداسة.. إذ تعرض في طفولته لمخاطر عديدة كان موته في كل منها محققا.. ولكن وكما كتب والده مرارا 'ينجيك الله يا ولدي لأمر يدخرك له'.. وقد دأب حسن البنا نفسه فيما بعد علي تكرار هذه الأحاديث، وذكر تلك الوقائع.. وتبعه في ذلك مريدوه ومن أرخوا لحياته. قطع الفتي 'حسن البنا'سنواته الأولي بين الكتاتيب والمدارس الالزامية بالمحمودية ثم مدرسة المعلمين الابتدائية بدمنهور.. وقد ارتبط خلال تلك الفترة ب 'الطريقة الحصافية'، ومارس طقوسها في حلقات الذكر، وتعرف علي صديقه 'أحمد السكري'الذي كان يكبره بعدة سنوات وكان والده ميسور الحال.. ومن ثم فقد عاونه كثيرا، ودفعه للالتحاق بكلية دار العلوم عام1923.. ثم أصبح فيما بعد عدوه اللدود عندما اختلفا.. بعد أن أصبح للبنا شأن، وجماعة، وصيت.. وعن هذه الفترة كتب حسن البنا عن صدمته بمجتمع القاهرة الذي يغلي بالصراعات الفكرية بعد سقوط الخلافة، وثورة كمال أتاتورك التي ألهمت الكثيرين، وشجعت النزعات التجديدية.. والعقلانية.. مما جعله يلجأ إلي 'إخوان الحصافية'من جديد، ويرتاد 'جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية'و' المكتبة السلفية'ويتعرف علي قادة تلك الاتجاهات 'محيي الدين الخطيب، الشيخ رشيد رضا، محمد فريد وجدي.. وآخرين'.. والعديد من شيوخ الأزهر.. ويصل في النهاية إلي فكر خاص ورؤية محددة اقتنع بها مع أصدقائه المقربين، حيث رأي أن 'المسجد وحده لا يكفي.. ولابد من رجال يهبون حياتهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر'.. ثم شكل مع بعض أصدقائه وزملائه جماعة تدعو إلي ذلك وتتبناه وتمارس الوعظ والخطابة في المساجد.. وقد اعتبرها د.رفعت السعيد النواة الأولي لجماعة الإخوان.. ويحرص البنا في مذكراته، علي ذكر واقعة معينة لعلها تكون مؤشرا لما كان يدور في عقله، فقد طلب منه كتابة مقال عن طموحاته المستقبلية، وهو يتهيأ للتخرج في دار العلوم.. فكتب 'إن أفضل الناس هم أولئك الذين يحققون سعادتهم بتوفير السعادة للآخرين، وباسداء المشورة لهم.. و.. إنني أعتقد أن شعبي قد ابتعد عن أهداف إيمانه نتيجة للمراحل السياسية التي مر بها.. والتأثيرات الاجتماعية التي تعرض لها، وتحت تأثير الحضارة الغربية.. والفلسفة المادية والتقاليد الافرنجية'.. وحدد البنا طموحه بأن يكون ناصحا ومعلما، وأن يكرس نفسه وجهده لتعليم الصغار نهارا، وآبائهم ليلا.. ويختتم مقاله بأن 'هذا عهد بيني وبين ربي'بهذه الروح وتلك المفاهيم والقناعات يتخرج حسن البنا في دار العلوم عام 1927 ويبدأ العمل مدرسا بمدرسة الاسماعيلية الابتدائية. وفي الاسماعيلية يبر البنا بوعده.. فيعكف علي تعليم الأولاد نهارا.. ويدور علي المقاهي ليلا.. وفي كل مقهي يلقي كلمة.. ويفتح للحوار بابا.. وسرعان ما أثمرت جهوده.. وجاءه الفرج في هيئة ستة من العمال الذين زاروه في منزله، مارس1928.. وكتب عنهم في مذكراته'وهم الذين تأثروا بالدروس والمحاضرات التي كنت ألقيها.. جلسوا يتحدثون إلي، وفي صوتهم قوة، وفي عيونهم بريق، وعلي وجوههم سنا الإيمان والعزم.. قالوا: لقد سمعنا ووعينا وتأثرنا، ولا ندري ما الطريق العملية إلي عزة الإسلام وخير المسلمين.. ولا نستطيع أن ندرك الطريق إلي العمل كما تدرك.. أو نتعرف السبيل إلي خدمة الوطن والدين والأمة كما تعرف.. وكل الذي نريده الآن أن نقدم لك ما نملك لنبرأ من التبعة بين يدي الله.. وتكون أنت المسئول بين يديه عنا وعما يجب أن نعمل.. وإن جماعة تعاهد الله مخلصة علي أن تحيا لدينه، وتموت في سبيله، لا تبغي بذلك إلي وجهه.. لجديرة أن تنتصر، وإن قل عددها.. وضعفت عدتها.. وكان لهذا القول المخلص أثره البالغ في نفسي، ولم أستطع التنصل من حمل ما حملت، وهو ما أدعو إليه، وما أعمل له، وما أحاول جمع الناس عليه.. فقلت لهم في تأثر عميق: 'شكر الله لكم وبارك في هذه النية الصالحة، ووقفنا إلي عمل صالح، يرضي الله وينفع الناس.. وعلينا العمل وعلي الله النجاح.. فلنبايع الله علي أن نكون لدعوة الإسلام جندا'وكانت بيعة.. ! ومن هذه العبارة في مذكرات البنا تتأكد لنا الخطوط العامة التي لازمت دعوة الإخوان منذ تشكيل 'الخلية الأولي'من عمال الإسماعيلية الستة حتي الآن، وأولها العلاقة بين القائد والاتباع.. والتسليم الكامل للقيادة.. والسمع والطاعة والكتمان.. وإن كانت نفس العبارة تشي بأمور أكثر أهمية ودلالة.. عندما يحرص الشيخ حسن البنا علي تأكيد أن الدعوة قد جاءته ولم يطلبها.. والبيعة قد أتته ولم يذهب إليها.. وأنه حمل علي كتفيه.. دون أن يطلب.. مسئولية القائد.. ومن المثير للدهشة أن البنا ومنذ البداية تحدث عن 'النهضة'وفي 'مذكرات الدعوة والداعية'يقول: 'إن نهضتنا لا تزال مبهمة.. لا وسائل لها.. ولا غايات ولا مناهج ولا برامج'ثم يشكو من فقر المناهج والوسائل فيقول: 'يظهر أن النهضة في فجرها كانت خيرا وأقوم سبيلا'.. ويبدو أنها ذات المشكلة التي تؤرق حياة الإخوان حتي اليوم وبعد أن أصبحت لهم 'الغلبة'ولكنهم لا يملكون صراحة المرشد المؤسس ويتحدثون كذبا عن امتلاكهم لأسباب ووسائل ومناهج تحقيق 'النهضة'.. ولنا عودة.