عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم الاثنين 20-5-2024 بعد آخر ارتفاع بالصاغة    التأخيرات المتوقعة اليوم فى حركة قطارات السكة الحديد    مجلس الوزراء الإيرانى: سيتم إدارة شئون البلاد بالشكل الأمثل دون أدنى خلل عقب مصرع إبراهيم رئيسي    الحكومة الإيرانية تعقد اجتماعا طارئا في أعقاب وفاة رئيس البلاد    زد يسعى لمواصلة صحوته أمام الاتحاد السكندري بالدوري اليوم    صفحات الغش تنشر امتحان العلوم للشهادة الإعدادية بالقاهرة .. والتعليم تحقق    باكستان تعلن يوما للحداد على الرئيس الإيرانى ووزير خارجيته عقب تحطم المروحية    إيمي سمير غانم تحيي ذكرى وفاة والدها: «ربنا يرحمك ويصبرنا على فراقك»    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 20-5-2024    "جهار": الإرادة السياسية الدافع الأكبر لنجاح تطبيق المرحلة الأولى من التأمين الصحي الشامل    اليوم.. أولى جلسات استئناف المتسبب في وفاة الفنان أشرف عبدالغفور    تفاصيل الحالة المرورية اليوم الإثنين 20 مايو 2024    استقرار سعر الدولار مقابل الجنيه المصري قبل اجتماع البنك المركزي    الشعباني يلوم الحظ والتحكيم على خسارة الكونفيدرالية    استقرار أسعار الفراخ عند 82 جنيها فى المزرعة .. اعرف التفاصيل    السيطرة على حريق بمنفذ لبيع اللحوم فى الدقهلية    اليوم.. محاكمة طبيب نساء شهير لاتهامه بإجراء عمليات إجهاض داخل عيادته بالجيزة    اليوم.. محاكمة 13 متهمًا بتهمة قتل شقيقين واستعراض القوة ببولاق الدكرور    رحل مع رئيسي.. من هو عبداللهيان عميد الدبلوماسية الإيرانية؟    البنك المركزي الصيني يضخ ملياري يوان في النظام المصرفي    تراجع الفائض التجاري لماليزيا خلال أبريل الماضي    جوميز: هذا هو سر الفوز بالكونفدرالية.. ومباراة الأهلي والترجي لا تشغلني    نجمات العالم في حفل غداء Kering Women in Motion بمهرجان كان (فيديو)    تسنيم: قرارات جديدة لتسريع البحث عن مروحية رئيسي بعد بيانات وصور وفيديوهات الطائرة التركية    عمر كمال الشناوي: مقارنتي بجدي «ظالمة»    أول صورة لحطام مروحية الرئيس الإيراني    الأميرة رشا يسري ل«بين السطور»: اليمين المتطرف بإسرائيل يدعم نتنياهو لاستمرار الحرب    ما حكم سرقة الأفكار والإبداع؟.. «الإفتاء» تجيب    فلسطين.. شهداء وحرجى في سلسلة غارات إسرائيلية على قطاع غزة    خلال أيام.. موعد إعلان نتيجة الصف السادس الابتدائي الترم الثاني (الرابط والخطوات)    محمد عادل إمام يروج لفيلم «اللعب مع العيال»    فاروق جعفر: نثق في فوز الأهلي بدوري أبطال إفريقيا    معوض: نتيجة الذهاب سبب تتويج الزمالك بالكونفدرالية    المسيرة التركية تحدد مصدر حرارة محتمل لموقع تحطم طائرة رئيسي    الأميرة رشا يسري ل«بين السطور»: دور مصر بشأن السلام في المنطقة يثمنه العالم    اتحاد الصناعات: وثيقة سياسة الملكية ستحول الدولة من مشغل ومنافس إلى منظم ومراقب للاقتصاد    وسائل إعلام رسمية: مروحية تقل الرئيس الإيراني تهبط إضطراريا عقب تعرضها لحادث غربي البلاد    دعاء الرياح مستحب ومستجاب.. «اللهم إني أسألك خيرها»    دعاء الحر الشديد كما ورد عن النبي.. اللهم أجرنا من النار    سمير صبري ل قصواء الخلالي: مصر أنفقت 10 تريليونات جنيه على البنية التحتية منذ 2014    طريقة عمل الشكشوكة بالبيض، أسرع وأوفر عشاء    مصدر أمني يكشف حقيقة حدوث سرقات بالمطارات المصرية    الإعلامية ريهام عياد تعلن طلاقها    قبل إغلاقها.. منح دراسية في الخارج للطلاب المصريين في اليابان وألمانيا 2024    ملف يلا كورة.. الكونفدرالية زملكاوية    الشماريخ تعرض 6 لاعبين بالزمالك للمساءلة القانونية عقب نهائي الكونفدرالية    أول رد رسمي من الزمالك على التهنئة المقدمة من الأهلي    استشهاد رائد الحوسبة العربية الحاج "صادق الشرقاوي "بمعتقله نتيجة القتل الطبي    استعدادات عيد الأضحى في قطر 2024: تواريخ الإجازة وتقاليد الاحتفال    تعرف على أهمية تناول الكالسيوم وفوائدة للصحة العامة    كلية التربية النوعية بطنطا تختتم فعاليات مشروعات التخرج للطلاب    حتى يكون لها ظهير صناعي.. "تعليم النواب" توصي بعدم إنشاء أي جامعات تكنولوجية جديدة    نقيب الأطباء: قانون إدارة المنشآت الصحية يتيح الاستغناء عن 75% من العاملين    أيمن محسب: قانون إدارة المنشآت الصحية لن يمس حقوق منتفعى التأمين الصحى الشامل    تقديم الخدمات الطبية ل1528مواطناً بقافلة مجانية بقلين فى كفر الشيخ    عالم بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذي الحجة    نائب رئيس جامعة الأزهر يتفقد امتحانات الدراسات العليا بقطاع كليات الطب    «المريض هيشحت السرير».. نائب ينتقد «مشاركة القطاع الخاص في إدارة المستشفيات»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محنة العقل الوطني.. !!
نشر في الأسبوع أونلاين يوم 29 - 04 - 2013

لا شك عندي أن كبري علامات الهبوط الفكري والنكوص الوطني، التي تشكل أكثر العوامل تجريفا وضغطًا علي الوضع السياسي والاقتصادي المصري، في كنف هذه السلطة، هي وضع مفهوم الوطنية المصرية تحت التهديد، حد محاولة تحويل عظم هذا المفهوم إلي حطب تتدفأ به. ولا شك عندي أن من بين هذه العلامات نفسها، منهج هذه السلطة وهي تسعي إلي نفي المفاهيم الوطنية الأساسية من السيادة إلي العدل إلي الوحدة إلي الثقافة إلي الخصوصية، وهي مفاهيم بلوَّرتها الجماعة الوطنية جيلًا بعد جيل، وغذَّتها الحركة الوطنية بطاقة فعلها جسارة وبطولة وتضحية وابداعا، في شكل موجات شعبية ثورية عالية، بينما تدفعها هذه السلطة دفعًا إلي الدخول في محيط صحراوي واسع، حيث أفواه الرمال الناعمة تمتص دون أن تبتل، وتشرب دون أن ترتوي.
ولا شك عندي –أيضًا– أن علة ذلك الواضحة، إنما تعود إلي حالة مرضية من الانفصام الذاتي، بين سلطة الحكم والعقل الوطني، وأنه بقدر اتساع هذه المسافة بينها وبين الناس في قواعدهم الشعبية، وبينها وبين جميع التيارات السياسية والفكرية والقوي الاقتصادية والاجتماعية، وبينها وبين القواعد الأساسية للأمن القومي، بقدر اتساع المسافة بينها وبين خلايا هذا العقل، بل إن الصراع السياسي والاجتماعي والثقافي في مصر من أوله إلي آخره، إنما تمتد معاركه وخنادقه ومواجهاته وجراحه ودماؤه، علي امتداد هذه الجبهة الواسعة وفي عمقها، ولهذا فإن العقل الوطني غدًا مغتربًا في وطنه، مطارَدًا في عرينه، مستلبًا في بيته، مجرّحًا في بدنه، واقعا تحت التهديد في ذاته، وفيما يملكه من تراث حضاري وذاكرة تاريخية وأرض وطنية، وفضاء إقليمي ومكانة دولية.
'1'
قد يبدو تعبير العقل الوطني فضفاضًا وغائمًا، ومعنويًا أكثر منه ماديا، فما هو هذا العقل الوطني؟ إنه بالضرورة ليس مجرد آلة محددة للتفكير وإنتاج إجابات شافية عن الأسئلة المصيرية المعلقة، بقدر ما هو منجم الخبرات ومخزون المعرفة التاريخية، الذي أنتجته وأنضجته شمس المعارك الوطنية علي جبهة واسعة ممتدة من التحديات والمخاطر والتهديدات بطول وعمق زمانه ومكانه، وما روّاه المصريون في حقوله دمًا وعرقًا. إنه علم التاريخ والجغرافيا، ودروس الزمان والمكان، قوام ووجدان الشخصية الوطنية المصرية، وقواعد دولتها التاريخية. إنه الحاسة الوطنية المصقولة كحد السيف القاطع الذي يفصل بين ما ينفع الشعب وما يضر به، وما ينفع الناس وما يذهب جفاء، وما يضيف إلي الوطن وما يقتطع منه، مكانا أو مكانة، وما يمثل مصلحة وطنية عليا، وما يمثل مصلحة سفلي لفئة أو جماعة.
لقد عرّف المفكر الغربي 'إنجلز' الغريزة بأنها ذاكرة النوع الإنساني، ولعل تعريف العقل الوطني ليس بعيدًا عن المعني ذاته، فهو أقرب إلي أن يكون ذاكرة النوع الوطني، أي أنه الغريزة الوطنية، التي تعبر عن نفسها بشكل أو بآخر، أو هو التعبير في لحظة معينة عن الذاكرة التاريخية للشعب وفي قلبها ذاكرته الاستراتيجية والعسكرية.
غير أن موضوع الذاكرة التاريخية للشعب المصري، يتمتع بخصوصية فريدة، بحكم عمق تاريخه علي جانب، وطبيعة هذا التاريخ الذي لم يخرج عن كونه سلسلة متصلة من المعارك والتحديات، علي جانب آخر دفعت مصر ثمنا فادحا علي امتداده لكي تصون موقعها وتحرر إرادتها، وإذا كانت خبرة القتال هي أرقي أشكال المعرفة العسكرية، فإن خبرة معارك الشعوب هي أرقي أشكال المعرفة السياسية، ولذلك فإن مصادرة العقل الوطني هي معني من معاني إزهاق الذاكرة الوطنية، كما هي معني من معاني وأد الذاكرة العسكرية والإستراتيجية، وفي هذه المسافة تحديدًا تتبدي درجة العداء الواضح من قبل الجماعة وسلطتها لهذه الخبرة التاريخية الحية، وما يمثل منها أعمدة باقية تحمل ما تبقي من بنيان الدولة المصرية.
'2'
في هذه المساحة تحديدًا تتبدي -أيضًا- طبيعة ودرجة مقاومة الشعب المصري لمحاولات نسخ تاريخه، وطمس شخصيته، وهدم دولته، ووأد حضارته، وتغيير مفاهيمه، واستلاب دوره القائد في إقليمه. وفي هذه المساحة تحديدا، ينبغي فهم ينابيع هذه المقاومة المصرية الشعبية التي تعلو أمواجها يوما بعد يوم، فهي ليست مقاومة اقتصادية أو اجتماعية فحسب، رغم أنها قد تبدو كذلك ولكنها مقاومة حضارية بالمعني الواسع للكلمة، وهي ليست مقاومة سياسية بالمعني المباشر لكلمة السياسة، لكنها مقاومة وطنية بالمعني الشامل لمفهوم الوطنية، وهي ليست مقاومة أجيال صاعدة اختُطفت الثورة من بين أطراف أصابعها، وصودرت معها أحلامُها وآمالُها، وإن بدا أنها تتقدم صفوف المواجهة وتقود موجات الغضب، وإنما هي مقاومة شعب يغالب اليأس، ويقاوم شحنه في توابيت الهمود، والقهر، والانكسار، ولهذا لا ينبغي أن يُفهم انحياز الشعب للجيش المصري وإلحاحه في طلبه، علي أنه مجرد تعبير اضطراري عن موازين قوي مختلة بينه وبين سلطة تتوحش أساليبها وأدواتها في مواجهته، بينما لا يستطيع لها دفعًا. إن فهم الأمر علي هذا النحو هو تجريد له من جذوره العميقة في التربة الوطنية المصرية، وهو سوء تقدير وغياب رؤية لعمق تلك البنية التحتية التاريخية التي تتوحد في تربتها هذه الجذور، وتتداخل المياه الجوفية التي تبقي العلاقة بين الشعب والجيش أكثر عمقًا وديمومة وتواصلا وتجددا، من أن تنال أو تأخذ منها الفتن والمؤامرات.
إن ما أنفق من جهد ومال، وما بذل من أدوات خداع، وأسلحة تضليل، في محاولة تغيير صورة الجيش المصري في وجدان المصريين كبير وثقيل وعاصف، لكن صورة الجيش بقيت علي حالها في وجدان مصر وشعبها، لأنها ليست رسمًا بالألوان المائية تمحوه عاديات الزمن، أو تنال منه الفتن المشتراة، أو الأدوات المباعة، وإنما هي نحت في كتلة اللحم، وتداخل في الشرايين التي يفيض فيها الدم من قلب واحد إلي اطراف جسد واحد.
ولهذا لا ينبغي ألا تُفهم أيضًا طبيعة المقاومة المصرية، علي أنها مجرد اندفاع مؤقت أو عابر فوق سطح ساخن، فالمقاومة في مصر ممتدة وعميقة، ولكنها تحدد إيقاعها وأسلوبها، وتختار ميادينها، وقد تبدو أحيانًا أكثر هدوءًا مما ينبغي علي السطح، لكن أمواجها في كل الأحوال والحالات أكثر قوة واندفاعًا وعنفًا والتهابًا قرب القاع، فهذه تربة مسكونة بالزلازل وفضاء مفتوح للعواصف، وكلاهما يتخير توقيته وأسلوبه، ويشكل لنفسه قبل غيره في لحظة الحقيقة مفاجأة بالمعايير التاريخية والإستراتيجية.
'3'
إذا كانت الحقائق واضحة إلي هذا الحد، وإذا كانت التفاصيل الصغيرة في عمق المسرح السياسي، لا تخفي الخطوط الرئيسة لحركة القوي السياسية فوق خشبته، فلماذا لا يكتمل الاصطفاف الوطني، علي خطوط أكثر وضوحًا وتمييزًا وتميزًا؟ قد تتعدد الإجابات المباشرة علي غرار، أن القرار الداخلي عامة قد أصبحت مكوناته الرئيسية خاضعة أكثر من أي وقت مضي لحضور عناصر خارجية إقليمية ودولية، أو علي غرار، أن هناك مظاهر قد تعطي انطباعًا بغلبة ما هو ذاتي وشخصي علي ما هو عام وموضوعي، أو علي غرار، أن ثمة فجوات بين القوي السياسية وتياراتها وأحزابها، هي من صنع الطبيعة السياسية بحسب الانحيازات الفكرية والاقتصادية والاجتماعية، أو علي غرار، أن الفجوة قد ازدادت اتساعًا بين القوي التي تقف في مقدمة المسرح وبين القوي التي تفيض حراكًا وغضبًا في شوارع العاصمة وشقوق المدن. ولكنني أعتقد مع ذلك أن هناك أسبابًا أكثر عمقًا قد يكون في مقدمتها تلك الطبيعة المزدوجة التي تبدو بها الجماعة، في حيز تحالفاتها الخارجية علي جانب، وممارساتها السلطوية علي الجانب الآخر، وهو ما يعطي انطباعًا بازدواجية غير مفهومة وغير مبررة، تنكمش معها مسافات العمل المتاح أمام توجهات قوي سياسية واقتصادية بعينها، فخلال أكثر من عقد ونصف العقد من عمر النظام السابق كانت القوي الفكرية الأكثر بروزًا وحضورًا علي الساحة العامة، تتوزع بين تيارين واضحين: الأول، يتسلح بإستراتيجية واحدة هي إعلاء سلطان الآخر، رغم تنوعات قواه وخطاباته، والثاني، يتسلح بإستراتيجية مضادة للأولي هي إعلاء سلطان الماضي، رغم تعدد قواه وخطاباته أيضًا، وإذا كان خطاب الأول قد ظل ينحو نحو صفقة مصالحة تاريخية مع الغرب، تقوم علي تبني قيم الليبرالية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإن خطاب الثاني، كان يقوم علي صفقة مصالحة تاريخية مع الماضي، تقوم علي استنهاض واجهاته القديمة وإحياء بعض شكلياته وأفكاره.
لكن المفارقة في ذلك أن الممثل الأكبر للتيار الثاني، وهو جماعة الإخوان، قد تصرف بنفعية مخادعة، وبدا ذلك واضحًا في سلوكه العملي بغية استحواذه علي السلطة والإبقاء عليها، وهو يسعي إلي الجمع بين معالم التيارين معًا، فهو علي جانب يتوجه إلي الغرب علي أساس دوره في إعلاء سلطانه، أي سلطان الآخر، ويتوجه إلي الداخل علي أساس إعلاء سلطان الماضي باسم مشروع إسلامي لا نبض فيه لجوهر الإسلام العظيم، رغم أن الغاية الاستراتيجية بعيدة عن كلا التوجهين فهي محصورة في هدف واحد، هو إعلاء سلطان الجماعة لا سلطان الآخر ولا سلطان الماضي.
لكن الشاهد في ذلك، أن المساحة المتاحة لأصحاب استراتيجية التكيّف والمصالحة مع الغرب، قد انكمشت إلي حد كبير، فقد اندفع الإخوان في التصرف للبرهنة علي أنهم ليبراليون حقيقيون، فأخضعوا الاقتصاد الوطني كليًا لمصالح القوي الغربية وسماسرتها الإقليميين، حد القبول بلا عقل بإجلاس رقيب مالي أجنبي حاكم للبنك المركزي المصري، وحد الإطاحة بلا قلب بما تبقي في أيدي الطبقة المتوسطة والطبقات الدنيا مما يمكن أن يسد جانبًا من الحاجات الأساسية، وحد القبول بتصفية القضية الفلسطينية علي حساب قدسية التراب الوطني، وحد تحطيم النظام الإقليمي العربي، وتقزيم الدور المصري، لصالح مثلث قوي إقليمية ليست عربية القلب ولا اليد ولا اللسان.
وهكذا فلم يبقَ من حيز في خطاب القوي الليبرالية، إلا الضغط علي معايير حقوق الإنسان ودولة القانون، وهي مفردات قد يعتقد البعض أنها كافية لإيقاظ واستنفار جانب من الضمير الغربي العام، وقد لا يعتقد عاقل مع ذلك أنها قابلة لتحريك خلية غربية واحدة في ضمير الحكومات والسلطات هنا، فجميعها بالنسبة لها لم تكن أكثر من مشهيات أو مقبِّلات في صفقة الهيمنة والسيطرة، التي برهن الإخوان علي قدرتهم الجسورة علي طبخ وجبتها المسمومة وتوزيع أطباقها علي الشعب والأمة.
'4'
أريد أن أضرب مثلا علي ما لحق بقواعد التحالفات الوطنية، من اهتزاز بين القوي الليبرالية وغيرها من القوي الوطنية، بسبب انكماش رقعة المساحة الاقتصادية والاجتماعية التي كانت ميدان خطابها الأساسي، والتي نجحت جماعة الإخوان في احتلالها، رغم أنها لم تنتج إلا ليبرالية اقتصادية ملوثة في حقل التطبيق العملي.
لقد كان لدي صندوق النقد ضرورة يريد تحقيقها شكليًا لتمرير قرض يلحّ هو علي اعتماده أكثر مما يريد من سيقدِّم إليه، أما هذه الضرورة فهي الحصول علي ما يطلق عليه الموافقة المجتمعية علي شروط القرض، وهي شروط مجحفة تهز ما تبقي من ائتلاف اجتماعي بين طبقات المجتمع، وتلقي بشرائح طبقته الوسطي وطبقاته الدنيا، إلي سعير نار وقودها الناس والحجارة، وفي غيبة مجلس نيابي منتخب وفي وجود مجلس للشوري، لا يصح التذرع بموافقته علي شروط القرض مبررًا لتمريره بحكم ما يعكسه من تمثيل ضيق، ولهذا لم يبقَ لدي الصندوق غير أن يقطف ثمرة الموافقة المجتمعية علي القرض من أيدي جبهة الإنقاذ، ولقد كان لزاما علي الجبهة –أولًا– لكي تعكس موقعها ودورها كجبهة، أن تلتقي وفد الصندوق مجتمعة أو ممثلة في بعض من قياداتها مجتمعين بدورهم لتقديم رؤية وطنية موحدة تعكس نبض الشارع المصري في ظل أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية، التي ازدادت انهيارًا وازداد الناس معها بؤسًا وفاقة، ولكن الجبهة لم تتصرف كجبهة وإنما كزعامات وكان لوفد الصندوق ما أراد، فقد التقي بأكثر من شخص من قياداتها منفردًا. وقد كان علي الجبهة–ثانيا–حتي إذا تعددت لقاءات عددًا من قادتها منفردين بوفد الصندوق أن يكون الرد الذي يطرحه كل منهم موحدًا، وهذا ما لم يحدث، فقد حقق الصندوق ما أراد، بصيغة اللقاءات الفردية أولا، ثم بتفاوت الردود التي قُدمت إليه بين القبول المطلق والمتحفظ والمرفق بشروط غائمة. لكن وفد الصندوق أنهي مهمته وقد دانت ثمرة الموافقة المجتمعية التي أرادها وقد أصبحت حجّية في تقديم القرض بشروطه التي ترتهن الاقتصاد الوطني كله، بين يدي هذا النمط من الرأسمالية النفاثة، أما دم الطبقة المتوسطة والطبقات الدنيا فقد تم النجاح في توزيعه بين جميع القبائل السياسية، والمشكلة في ذلك ليست مشكلة القرض، ولا دم فقراء مصر المسفوح، والتي توزعت جريمة سفكه بين هذه القبائل فحسب، وإنما مشكلة اهتزاز قواعد الائتلاف بين القوي السياسية بحكم تلك الطبيعة المزدوجة للجماعة بين تحالفاتها الخارجية، وممارستها الداخلية، وبحكم أن قواعد الائتلاف ذاتها لم تتأسس علي صيغة واضحة لخيار وطني اقتصادي اجتماعي مشترك، كانت جديرة بأن تشكل نسيجًا ضامًا، لا يعزز قوة الائتلاف فحسب، ولكنه يساهم بشكل حقيقي في تضييق الفجوة التي ازدادت اتساعًا بين الواجهات السياسية العالية وبين الغضب السائل في الشوارع، وإذا ما استمر الحال علي ما هو عليه، دون أن يفرض الشارع خياراته البديلة، فإن مصر ستنتهي في كل الأحوال إلي صنف من الليبرالية الملوثة في حقل الاقتصاد، وصنف من الليبرالية الشمولية في حقل السياسة.
'5'
لقد أريق حبر كثير للتأكيد علي أن الولايات المتحدة قد أدركت أن رهانها علي صعود جماعة الإخوان إلي سدة الحكم، هو رهان فاشل بحكم أن الجماعة لم تحقق الأهداف الأمريكية التي مثَّلت بطاقة هذا الرهان، والحقيقة أنني لست متأكدًا من صحة أو دقة مثل هذا التأكيد، وفيما أحسب فإن رهان الولايات المتحدة علي الجماعة لم يفشل، ولكن إدراكها الاستراتيجي لطبيعة الشعب المصري، هو الذي يعكس في كل مرة رؤية سطحية، تضع حساباتها وتقديراتها في تناقض مدهش مع ذاتها ومع المتغيرات. بل أزعم أن الإدراك الأمريكي الجديد لطبيعة الشعب المصري بعد تلك الشهور يعكس مفاجأة استراتيجية لا تختلف من حيث النوع وربما من حيث الدرجة، عن المفاجأة الاستراتيجية التي مثلتها ثورة الشعب المصري في 25 يناير.
قبل أسابيع أصدر مجلس المخابرات الوطني الأمريكي، وهو الذراع التحليلية لمكتب مدير المخابرات الوطنية، تقريرا بعنوان: 'توجهات عالمية 2030– عوالم بديلة' ومع أن التقرير يقع يف 160 صفحة ويدور في فلك محددات خمس أساسية تم صياغتها في شكل أسئلة، إلا أن متن التقرير ذاته قدَّم عددًا من القناعات التي تكاد أن تصل في منظوره إلي حدود اليقين، يعنيني عددا من بينها في مقدمتها –أولًا– أن مصير مصر بالدرجة الأولي والشرق الأوسط كله بالدرجة الثانية قد تم حسمه بشكل كامل، فقد وصل التيار السني –حسب توصيفه–إلي مرحلة التمكين في دول مثل مصر وتركيا وتونس وغزة، وفي مقدمتها –ثانيًا– أن عدم الاستقرار سيتحول إلي حالة مزمنة تسود المنطقة نتيجة زيادة ضعف الدولة، ونمو الطائفية والانقسامات الدينية، وفي مقدمتها–ثالثا–أن الحكومات والدول الضعيفة –مثل مصر دون أن يحددها– سوف تفقد دورها تاركة الساحة للقوي الإقليمية غير العربية 'تركيا– إيران– إسرائيل'. وفي مقدمتها –رابعًا– أن الصراع القادم في هذه الدول التي تم التمكين فيها لهذا التيار مع عودة الفساد وتحول البطالة إلي علة مزمنة وشعور الفقراء بالفشل في تحسين معيشتهم في ظل الديمقراطية، سيكون بين التيار الذي تم التمكين له وبين الراديكاليين والمتشددين الإسلاميين الذين سيحصلون علي التأييد الشعبي.
ورغم هذا الخلط المدهش في متن التقرير بين التوقعات وبين التوجه الاستراتيجي، فإنه يبدو واضحًا أن الشعب المصري غائب تمامًا حتي عن المشاركة في تغيير المعادلات التي تم فرضها، وأن جميع القوي السياسية الوطنية، لا نصيب لها من قريب أو بعيد في الأمر ذاته، لأن مصر قد حُسم مصيرها بشكل نهائي، وأن الصراع المقبل في بيئتها سوف يكون طرفه المنتصر، بحكم ما سينتجه الطرف الأول وهو الإخوان من فقر وبطالة وفساد، هو القوي التي يطلق عليها وصف المتشددين الإسلاميين أو الجهاديين.. أي التنظيمات المسلحة التي علي غرار القاعدة وأشباهها.
ومع أن ما يعنيني في ذلك كله حقيقة، هو التأكيد أن الجديد ليس فشل الإخوان في تقديم البضاعة، وإنما فشل الإستراتيجية الامريكية في فهم أن مصير مصر لم يُحسم، وأن الشعب المصري هو العنصر الأكثر فاعلية وتأثيرا في تقرير هذا المصير. لكن التقرير يعكس إلي جانب ذلك ما يستحق أن تتوقف أمامه الجماعة نفسها، لأن دورها ووظيفتها في إطار هذه الإستراتيجية لا يخرجان عن لعب دور المدفعية الثقيلة في معركة الإمبريالية، فتهدم أركان الدولة وتنشر الفقر والبطالة والفساد، لكن قوة المشاة التي ستحتل الأرض التي مهدتها بقصفها المدفعي الثقيل لن تكون لها، وإنما ستكون من نصيب غيرها من التنظيمات الجهادية، لأن الأخيرة هي التي ستمنح المشروعية السياسية والدولية أمام احتلال أجنبي مباشر باستخدام القوة المسلحة.
'6'
مصر كدأبها تقاوم، وتلك هي الحقيقة الساطعة التي تقلب جميع الإستراتيجيات والموازين، ففي كل زاوية من زوايا مصر الواسعة ثمة مقاومة، وفي كل ركن من أركان الدولة المصرية ثمة مقاومة، فتيار الوطنية المصرية هو الكاسح والغالب، وهو الصاعد بقوة إلي حيث ينبغي له أن يصعد وأن يكون. أما هذا النفر القليل الذي يعاون السلطة علي هدم البنيان داخل بنية الدولة أو خارجها في أي موقع أو مكان، فعليه أن يدرك تلك الحقيقة التي يكاد الغرب أن يدركها الآن، من أن المشكلة ليست في ضعف الإخوان وإنما في قوة الشعب المصري.
Email: [email protected]
Site: ahmedezzeldin.com


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.