كنا فى المرحلة الابتدائية، حين ذهبنا فى رحلة مدرسية إلى المتحف الزراعى وإلى القبة السماوية، لم نكن نعرف طبيعة هذه الأماكن التى سوف نذهب إليها ودارت الأسئلة بينى وبين زملائى عن هذه الأماكن التى سوف نزورها فى رحلتنا ولم تكن لدينا وسائل التكنولوجيا المتاحة اليوم لمعرفة أية تفاصيل عنها، وحين توقف بنا «الباص» أمام المتحف الزراعي، وقفنا فى صفوف منتظمة، ودخلنا إلى قلب المتحف ونحن فى حالة شغف عما يحمله من أسرار. كانت تماثيل الشمع تنطق جمالًا وإبداعًا وتتحدث عن تاريخ لم يدركه جيدًا عقلنا الصغير، إلا أن هذه الصور حفرت فى ذاكرتنا العقلية والبصرية والقلبية أيضًا، نعم فللمشاعر ذاكرة تجتر ما مر بها من ذكريات حزينة كانت أم سعيدة، كان المشرفون على رحلتنا يطلبون منا برفق ألا نلمس التماثيل وألا نعبر الحواجز المحيطة بها حرصًا عليها، ربما وقتها كان منعنا من لمسها غير منطقى فما الذى يضير تمثالاً إذا ما لمسته أيادٍ صغيرة كأيادينا؟ لكننا أدركنا أهمية ذلك بمرور السنوات، خرجنا من المتحف الزراعى وقلوبنا فرحة وعقولنا ترسم قصصًا وحكايات لهذه الشخوص والكائنات الشمعية التى جسدتها التماثيل، كان هذا محور حديثنا أثناء طريقنا من المتحف إلى القبة السماوية، وكانت تنتظرنا هناك أسطورة أخرى. جلسنا فى بهو كبير فى شكل دائري، وأظلمت القاعة تمامًا بينما تعالت همساتنا ونحن فى انتظار ما ستسفر عنه هذه الإجراءات التى تبدو كمفاجأة لمن هم فى مثل أعمارنا، ثم بدأت موسيقى خافتة، وأضاءت القبة من أعلاها، فرفعنا أنظارنا إليها حيث بدت كسماء ليلة صافية مليئة بالنجوم المتلألئة، جاء صوت المذيع عبر مكبرات صوت هادئة لكنها قوية ليحكى لنا عن النجوم والقمر وأسرار السماء وأساطير الحكايات القديمة التى كنا نتوارثها جيلًا بعد جيل.. لا أعرف حتى اليوم كم مضى من الوقت آنذاك فى هذه الرحلة التى أخذتنا عبر الزمن فتجاوزت حدود المكان إلى السماء والمجرات والنجمات وأسرار الكون والحكايات.. لكن كل ما أدركناه جميعًا أن هذه الرحلة تحديدًا تركت فى ذاكرتنا ونفسى الكثير من التفاصيل التى أثرت فى مشاعرنا ورؤيتنا للحياة وإحساسنا بمنشآت ومؤسسات وطننا وارتباطنا بها فيما بعد.. إن ما نراه ونتعلمه ونحن صغار يصبح وشمًا فى قلوبنا وعقولنا لا يمحوه الزمن، ولا تغيره الأحداث، وهو المشروع الذى يجب أن تعمل عليه الدولة المصرية بكافة مؤسساتها ووزاراتها، إذا كنا وجدنا من يهتف ضد مؤسساتنا ومن يعمل على هدمها دون أدنى شعور بالانتماء ولا المسئولية ودون إحساسه بالارتباط بهذه المنشآت فنجد من يحرق ومن يسرق ومن ينهب ومن يفسد، كل هذا لأن شيئًا غاليًا بات غائبًا، وهو الانتماء، وهو فى رأيى أخطر قضية نواجهها فى وطننا العربى منذ سنوات طويلة، إن شيئًا عزيزًا فقدناه فى نشأة صغارنا الذين صاروا اليوم شبابًا وأجيالاً جديدة تخطو أولى خطواتها فى الحياة سوف تسير على هذا النهج الضال إذا لم نبدأ بكل طاقتنا فى تدارك الأمر، على الدولة أن تتبنى مشروعًا قوميًا حقيقيًا وتنويريًا يعمل على استعادة الهوية وتدشين روح الانتماء لدى الأطفال والشباب، وفى هذا الصدد كان نموذج أوركسترا وزارة الشباب والرياضة ورحلاتها ولكن هذا فقط لا يكفي، وإنما نحن فى أمس الحاجة إلى خطة حقيقية كبرى تشعل مراكز الشباب بالحياة وتحولها إلى مراكز إنتاجية وتخلق لمنتجات الشباب منافذ بيع وأسواق داخل مصر وخارجها، وأن تتحول قصور الثقافة فى كل ربوع مصر إلى مشاعل نور للعقول والقلوب، وأن تعاد مادة التربية الوطنية عمليًا إلى المناهج التعليمية بالمدارس مرة أخرى ولكن بما يتلاءم مع تكنولوجيا العصر وعقول الأطفال والشباب، علينا أن نفعل ما يمد جسور الرحمة والمحبة بين الأجيال الجديدة وبين تراب وحجارة ومنشآت وطنهم وأن يشعروا بأن هذا الوطن يمنحهم حتى يستطيعوا أن يمنحوه، كما هو حال شهدائنا من رجال الجيش والشرطة الذين يضحون بحياتهم كل يوم من أجل هذا الوطن، لقد تربى هؤلاء فى مؤسسات عسكرية علمتهم كيف يحبون هذا البلد ويمنحونه حياتهم بمنتهى الرضا، وخير دليل على هذا أعداد الضباط والجنود الذين يتقدمون بالآلاف من الطلبات للذهاب إلى الخدمة فى سيناء كلما اشتدت الحرب هناك.. هذا النهج الذى بدأت تنفذه وزارة الداخلية حين نظمت رحلات لطلبة المدارس لزيارة منشآتها وتعريفهم بها وبتضحيات أبنائها، ومنحهم الهدايا التذكارية التى ستظل حتمًا، وشمًا فى الذاكرة يربطهم بحبل سرى مع تراب هذا الوطن، حبل لا تقطعه آلام مخاض جيل من بعد جيل.