منذ أن أدركتني حرفة الكتابة وأنا أكتب ضد 'الاستبداد' و'التبعية' لأنهما معًا وجهان لعملة واحدة هي 'التخلف'. فالقوي الكبري تسعي دائمًا لاستمرارنا 'متخلفين' والمستبدون دائمًا يمارسون 'الاستقواء' بالأجنبي كي يحافظوا علي عروشهم .. فيرهنون الإرادة الوطنية لصالح شركاته ومنتجاته وخططه الاستراتيجية التي تهدف إلي سيطرة الرأسمالية العالمية علي الأسواق والثروات العربية التي تحرسها بالنيابة عنهم 'دولة إسرائيل'. لذا فالمستبدون في المنطقة يضمنون له أمن 'إسرائيل'، ويؤمنون له السوق مفتوحة فتنهار التنمية، وتتفكك الصناعات الوطنية .. فتزدهر الرأسمالية الطفيلية 'الوكيلة' المساندة لسلطة الاستبداد وهي طبقة لا ولاء لها إلا للمال ولمصلحتها ومصلحة 'رعاتها الأجانب' فتنهار الحداثة المجتمعية ويعم التخلف المجتمعي ويتحول الشعب إلي 'مستهلك صالح' يقنع بمهن الاقتصاد التابع فيحمل أبناؤه كعمال للصيانة ومندوبين للمبيعات، وموزعين للسلع، وسماسرة ومحصلي فواتير وعمال للخدمات ويتحول المجتمع من مجتمع منتج إلي مجتمع من 'الخدم' في بلاط امبراطورية الوكلاء المتحالفة مع الاستبداد .. هكذا كان الحال منذ النصف الثاني من حكم السادات وطوال حكم مبارك .. وبسبب هذا المجتمع المختل خرجت طلائع الشعب المصري يوم 25 يناير تطالب بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ترفض التبعية والتخلف، وتسعي لإقامة المجتمع الوطني الديمقراطي الحديث. ولكن لم تستطع الثورة في موجتها الأولي إلا أن تزيح 'رموز النظام' وبقيت علي الأرض الطبقة التي كانت تدعمه بتحالفاتها الخارجية وهي كما أسلفنا طبقة لا ولاء لها إلا لمصلحتها ومصلحة 'المورد الأجنبي' ولأنها طبقة طفيلية فهي تغير جلدها كالحرباء .. وتساعد أي مستبد جديد وتدعمه لتحافظ علي مصالحها.. وهو ما حدث بالفعل فلقد استطاعت هذه الطبقة أن تعيد إنتاج استبداد النظام السابق بنفس 'قانونه وقاموسه' واستطاعت أن تصنع دستورًا يطلق يدها في السوق ويقلص حقوق العمال والمواطنين لتعربد كما تشاء وتسترضي 'الرعاة العالميين' بضمان أمن إسرائيل وفتح أبواب السوق علي مصاريعها لمنتجاتهم وخططهم الاستراتيجية .. وبدأت تتحالف بقوة مع الاستبداد الجديد الذي راح يكمم الأفواه ويقمع الاحتجاج ويدوس علي الحرية ويتهم المعارضين بالتآمر والعمالة مستقويًا بالراعي الأجنبي الرسمي، الذي أعطاه الضوء الأخضر. لكن مصر بعد 25 يناير غير مصر قبلها .. فلقد كسر الشعب قيود الخوف وازداد وعيًا واكتشف بالتجربة والخطأ من هو الثوري ومن هو اللاثوري، وكشف بسرعة مذهلة استبدادية وتبعية النظام الجديد الذي فشل في تحقيق حد أدني من الأمان والاستقرار لجموع الشعب .. فسقط قناع 'الثورية' عنه واتسع الاحتجاج ضده .. وكلما اشتد الاحتجاج والنقد فقد النظام أعصابه وازداد استبدادًا وقبحًا .. فأسقط بنفسه قناع الثورية المدعاة وبدأت شرعيته السياسية 'القادمة من الصندوق' في التآكل بسرعة .. واقترب أكثر من قبره الذي حفره لنفسه بنفسه، وسيتوسده بأسرع مما يتخيل الكثيرون.