الوطن يعيش الأزمة، الشهداء يتساقطون بالعشرات، الجرحي تجاوزوا الألف في يومين اثنين فقط، الحرائق، الخراب يحل علي كل جزء من أرض هذا الوطن المبتلي. كان كل شيء يمضي، إلي أن أصدر الرئيس إعلانه الدستوري، فانقلب كل شيء، وضاعت ملامح دولة القانون والدستور، انقسم المجتمع في ساعات قليلة اشتعلت النيران والحرائق، ضاعت ملامح الوطن، انفجر البركان الهادر في كل مكان، رفع المتظاهرون شعار 'النهاية أو الفوضي'، كأنه انذار أخير، لا خيار أمامنا، لقد أرادوا القول 'إما إسقاط النظام الإخواني وإما الفوضي العارمة في البلاد'!! اشتد الرعب في البلاد، الخوف علي الوطن، الأسرة والشعب، الحاضر والمستقبل، المنزل والكيان، تداعت الأحداث سريعًا، سالت الدماء لتعم أرجاء الوطن، غير أن الرئيس ظل ولايزال صامتًا، وكأنه غير معني بما يحدث، وراحت واشتد الصراع بين أبنائه، وأصبحنا أمام واقع جديد، يهدد بإشعال حرب بلا نهاية.جماعته توجه الاتهام إلي 'جبهة الانقاذ' ومن تسميهم 'بالعناصر التخريبية' وتحملهم المسئولية كاملة. وبين ليلة وضحاها سقط العشرات من الشهداء، والمئات من الجرحي، تم إحراق العشرات من المنشآت الحيوية وأقسام الشرطة، وقد شهدت محافظتا السويس وبورسعيد في اليومين الأولين أخطر هذه الأحداث. لقد حذرنا سابقًا من خطورة الاعتداء علي الدستور والقانون وتجاوز سلطة القضاء وإهانة المحكمة الدستورية، وقلنا إذا كان الرئيس لا يحترم الدستور أو القانون، فسيكون طبيعيًا أن يفتح الباب واسعًا أمام فوضي عارمة تتجاوز كل الحدود. وإذا كان الشارع المصري، المؤيدون والمعارضون قد ارتضوا بالرئيس محمد مرسي رئيسًا للبلاد منذ البداية، إلا أن ممارسات الرئيس وإصراره علي تصفية الحسابات مع الجميع والانفراد بالسلطة وتجاوز الثوابت، كانت هي السبب الحقيقي والأساس لما آلت إليه الأوضاع في البلاد. لقد ظن الرئيس أنه قادر علي قمع الشعب المصري وإسكات صوته من خلال إجراءات تهديدية، طالت الكثير من الرموز، عملاً بالمثل القائل 'اضرب المربوط يخاف السايب' وراح يفتح الباب واسعًا أمام ميليشيات جماعته وأنصارها لحصار المحكمة الدستورية العليا وإهانة قضاتها، وحصار مدينة الإنتاج الإعلامي والاعتداء علي العديد من الإعلاميين، ناهيك عن أخونة الصحافة وقمع الآراء المعارضة. لقد استطاع الرئيس محمد مرسي في ستة أشهر أن يحول الحلفاء إلي أعداء وأن يحدث انقسامًا خطيرًا في المجتمع وأن يدفع بالأوضاع الاقتصادية إلي مزيد من التردي وأن يقبل بشروط صندوق النقد، ويبدأ في رفع الدعم، ليزيد من فقر الفقراء، فتدهورت الأوضاع، وانهارت قيمة الجنيه، وأصبحت البلاد علي شفا حفرة من الانهيار وثورة الجياع. كان طبيعيًا والحال كذلك أن يثورالمصريون، وأن يخرجوا إلي الشوارع مطالبين برحيل النظام، بعد أن أدركوا أنه يصم آذانه عن مطالب الجماهير، وأنه تخلي عن كافة وعوده التي أطلقها، وكان آخرها وعده بإصدار دستور توافقي، ينال رضا الجماعة الوطنية بكافة اتجاهاتها الفكرية والسياسية. لقد أصبح المصريون علي يقين بأن رئيس البلاد يعمل بكل ما أوتي من قوة علي أخونة الدولة المصرية، وتغيير هويتها، وتصفية كفاءاتها لحساب عناصر الجماعة، التي لا خبرة لها، ولا قدرة لها علي الإدارة، وهي كلها أمور زادت الأوضاع تعقيدًا، فتراجع مستوي الأداء، وأصبحت العشوائية والتخبط والتردد عنوانًا لهذا النظام الجديد. أدرك المصريون أن وطنهم قد اختطف منهم، وأن تضحياتهم العظيمة التي أسقطت النظام السابق، ذهبت هباء، وأنهم تعرضوا لخديعة من جماعة الإخوان التي انقلبت علي شعاراتها فأصبح حكمها للبلاد أكثر استبدادًا، وأكثر استحواذًا وأشد إقصاء للمخالفين والمعارضين!! وفوجئ المصريون أيضًا، بهذه العلاقة الغريبة والمريبة بين النظام الجديد وجماعته، وبين الإدارة الأمريكية التي سعت منذ البداية إلي تأييد هذا النظام والصمت علي أخطائه، فأدركوا أن هناك شيئًا خفيًا يدور من خلف ستار، وأن ممارسات السياسة الخارجية بدأت تكشف عن تعاون وثيق في ملفات إقليمية ودولية عديدة، كما أن معلومات عديدة راحت تتحدث عن مخططات سوف يجري تنفيذها انطلاقًا من سيناء، وكل ذلك كانت له ردود أفعاله القوية لدي الشعب بكافة فئاته وأطيافه. وشعر المصريون أن قادة الحكم في قطر، الذين لعبوا دورًا خطيرًا في القلاقل التي تسود المنطقة العربية أصبحت لهم اليد الطولي علي أرض مصر، وتحدث الكثيرون عن مخططات في قناة السويس والسيطرة علي اقتصاديات البلاد والعديد من المشروعات الاستثمارية من خلال عمليات الشراء الخفي التي يقوم بها مستثمرون مصريون مرتبطون بالنظام القطري، وهو أمر لم يقتصر علي الاقتصاد فقط، بل امتد إلي ساحة الإعلام أيضًا، فبدأنا نسمع عن محاولات لشراء صحف وفضائيات بهدف إسكات صوتها وإلحاقها بعجلة التبعية الإخوانية القطرية. لقد ضج المصريون كثيرًا، أنذروا، ورفعوا أصواتهم عالية، زحفوا بمئات الآلاف إلي قصر الاتحادية، وأبلغوا رسالتهم لمن يعنيهم الأمر، حافظوا علي سلمية التظاهرات، إلا أنهم وجدوا في اليوم التالي ميليشيات الإخوان وحلفاءهم يمارسون ضدهم كافة أشكال العنف، فيسقط الشهداء ويعذب الأبرياء داخل القصر الجمهوري وبمعاونة بعض كبار المسئولين داخل القصر. شعر المصريون أن زمن العدل قد انتهي، قرأوا مذكرة المستشار مصطفي خاطر المحامي العام الأول لنيابات شرق القاهرة وهو يسرد، كيف طلب منه النائب العام المعين 'طلعت إبراهيم' حبس أبرياء لا ذنب لهم، بما يعني تلفيق القضايا، فطلب إنهاء انتدابه، وقدم مذكرة إلي مجلس القضاء الأعلي بعد أن صدر قرار بنقله إلي بني سويف، لكن الحدث مر مرور الكرام ولم يسائل أحد النائب العام عن هذا التجاوز الخطير، فأدرك أبناء هذا الشعب 'المكلوم' أن أبواب العدالة قد أغلقت في وجوههم، وعندما شاهدوا رجال النيابة العامة الشرفاء يقفون أمام مبني دار القضاء العالي يشكون الظلم، ويطلبون العدل والقانون كان ذلك قمة المأساة. لقد كان الأخطر هو إطلاق ميليشيات الإخوان لتسب رجال النيابة والقضاة، ويعتدون علي رئيس النادي المستشار أحمد الزند، فيصمتون ولا يردون إلا بالهتاف لمصر وللوطن المخطوف.. كانت المأساة الأخطر هي في هذا الدستور الذي جري تفصيله علي مقاس جماعة الإخوان وطموحاتها في أبدية سيطرتها علي السلطة والانتقام من خصومها، وكان في مقدمة هؤلاء الخصوم النيابة العامة والمحكمة الدستورية العليا، حيث أطاحوا بالعديد من قضاتها الأجلاء، وفي مقدمتهم المستشارة تهاني الجبالي.. كان طبيعيا والحال كذلك أن تنفجر الأوضاع في مصر، وأن يخرج الناس إلي الشارع، وأن يطالبوا بالتغيير الشامل دون مواربة.. صحيح أن الرئيس محمد مرسي رئيس منتخب أيا كانت الملاحظات والتحفظات غير أن احترام الرئيس للدستور والقانون والحفاظ علي مصالح البلاد هو الذي يمنحه الشرعية وليس شيئا آخر!! إنني أعتقد يقينا أن نظرة واحدة للمشهد في مصر بعد مضي أكثر من ستة أشهر علي تولي الرئيس مرسي لمهام الحكم في البلاد تؤكد أن الأوضاع في مصر أصبحت علي شفا الانهيار، وأن دولة القانون والدستور قد سقطت، وأن مصالح البلاد باتت مهددة بشكل خطير. لقد اجتمع أول أمس السبت مجلس الدفاع الوطني لعدة ساعات، وانتظر الناس إجراءات عملية، وقرارات فورية تهدئ الشارع وتبعث الطمأنينة من جديد إلا أن القرارات المعلنة جاءت هزيلة لا تتضمن أي جديد، اللهم إلا دعوة يتيمة للحوار دون ضمانات، وإنذار بفرض حالة الطوارئ وحظر التجول في المناطق المضطربة.. وصدم الناس من هذا البيان الذي سبقه بيان من جبهة الانقاذ يحدد عدداً من المطالب الهامة كان أبرزها تشكيل حكومة انتقالية وتعليق العمل بالدستور، ووضع ضمانات تضمن نزاهة الانتخابات البرلمانية المقبلة.. صدر بيان مجلس الدفاع الوطني وكأن شيئا لم يحدث علي أرض الوطن.. إنهم يكررون ذات السيناريو الذي استخدمه مبارك مع مظاهرات الخامس والعشرين من يناير، فكانت النتيجة هي سقوطه وسقوط نظامه بلا رجعة.. إن الأحداث التي تشهدها البلاد في الوقت الراهن تنذر بفوضي شاملة وتدفع إلي تفكيك الكيان الوطني، ذلك أن الدعوات التي تنطلق في العديد من المحافظات بالاستقلال، والتي يرافقها اسقاط العديد من مؤسسات الدولة بداخلها، هي ليست دعوات عبثية، بل هي تعبير عن حالة احتقان وسخط ورفض لحكم الإخوان، لا يتوجب الاستهانة بها، بل يجب التعامل معها بجدية شديدة ليس بالقهر الأمني الذي لن يزيد الأمور إلا تصعيدا بل بإجراءات عملية تعيد الثقة للناس مرة أخري وتدفعها إلي إنهاء حالة التمرد التي بدأت تنتشر في أنحاء البلاد!!. لقد تعهد وزير الدفاع الفريق أول عبدالفتاح السيسي أكثر من مرة بالحفاظ علي استقرار البلاد ووحدتها وأمنها القومي، وأعلن انحيازه للشعب، بل حتي البيان الأخير الصادر عن مجلس الدفاع الوطني تضمن بناء علي طلب من الوزير فقرة تقول إن المجلس يؤكد أن القوات المسلحة المصرية ملك للشعب المصري العظيم وأنها تقف علي مسافة واحدة من الجميع، ولا تتدخل في العملية السياسية، إلا أنها في نفس الوقت تدرك واجبها الوطني وحقوق شعبها عليها في تأمين منشآته الحيوية وتحرص علي تحقيق الشعب لطموحاته وآماله ومبادئ ثورته العظيمة. هنا يطرح السؤال نفسه، ماذا عن موقف الجيش؟ وهل سيترك البلاد تمضي إلي الخطر والفوضي، أم أنه سيتدخل لحماية الكيان الوطني والحيلولة دون تفكيكه، وانهياره..؟! لقد تعرض الجيش المصري في وقت لاحق للإهانة من بعض القوي التي لا تريد استقراراً لهذا الوطن، وتحمل الجيش أعباء تنوء بحملها الجبال، وصمم علي إجراء انتخابات نزيهة ورفض التدخل لصالح طرف علي حساب الآخر وترك القرار النهائي للجنة العليا للانتخابات الرئاسية، غير أن ما جري في وقت لاحق لا يجب أن يكون هو الفيصل في قرار الجيش، بالنزول إلي الساحة وحماية أمن البلاد، خاصة بعد الصعوبات التي تعاينها الشرطة المصرية في مواجهتها لأعمال العنف. إن البلاد تمر بمنحني شديد الخطورة، والأوضاع الأمنية والاقتصادية تتداعي وتتدهور بشكل سريع، كما أن ثقافة العنف والقوة أصبحت هي السائدة في الوقت الراهن، كوسيلة للتعاطي داخل المجتمع، وهي كلها أمور خطيرة تستوجب التدخل قبل فوات الأوان.. إن التاريخ لن يرحم أحداً، من هؤلاء الذين كانوا سببا في إشعال النار التي ستحرق الجميع بلا استثناء، وهي لن تفرق بين حاكم أو محكوم، وبذات الدرجة فإن التاريخ لن يرحم الصامتين علي هذا الانهيار الكبير الذي تشهده البلاد والذي ينذر في الفترة القادمة بما هو أشد وأخطر.. إن مصر تنادي أبناءها المخلصين، الشرفاء، بأن يقفوا إلي جوارها في هذه المحنة الصعبة التي تهدد كيانها وشعبها، حاضرها ومستقبلها، وأن يتناسوا خلافاتهم وأن يعودوا لبناء الوطن والانطلاق به إلي الأمام وفاء لثورتهم وانطلاقا من أهدافها وحرصا علي سلامة البلاد وشعبها.. فهل يسمعون؟!