الدكتور حسين نصار )1925 - 2017(، أستاذ الأدب العربى بكلية الآداب، جامعة القاهرة؛ شخصية جديرة بكل تكريم واحتفاء ووفاء؛ فقد كان )رحمه الله( ذا شخصية ثرية، مترامية الأبعاد، فهو مؤلف وأديب ومحقق ومترجم. وفى هذا الصدد جاءت الندوة الاحتفالية التأبينية التى أقامتها دار الكتب والوثائق القومية برئاسة د. أحمد الشوكى، بقاعة على مبارك، وذلك فى الخامسة من مساء الخميس الماضى 14 من ديسمبر 2017، وكانت تحت عنوان «يوم وفاء فى حب د. حسين نصار»؛ بالتعاون مع جامعة القاهرة وعدد من المؤسسات الأخرى بحضور ومشاركة وزير الثقافة الكاتب الصحفى حلمى النمنم، ود. محمد عثمان الخشت، رئيس جامعة القاهرة، ود. محمد عفيفى الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للثقافة، ود. نادر عبدالدايم رئيس الإدارة المركزية لدار الكتب، ود. نيفين محمد رئيس الإدارة المركزية بدار الوثائق، ود. عبدالحميد مدكور الأمين العام لمجمع اللغة العربية، ود. أحمد درويش أستاذ البلاغة والنقد الأدبى والأدب المقان بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، ومقرر لجنة الدراسات الأدبية والنقدية بالمجلس الأعلى للثقافة، ود. عبدالله التطاوى، ود. وفاء محمد كامل، ود. فتحى أبو عيانة. يعد الاهتمام بمجال الإعجاز اللغوى والبلاغى والعلمى للقرآن الكريم من أبرز سمات الشخصية العلمية للدكتور حسين نصار، فقد اتسعت دراساته فيه اتساعًا لافتًا ومميزًا سواء على المستوى النظرى أو التطبيقى. فقد غطى كتاباه: «إعجاز القرآن )التحدى والمعارضة(»، و«العجز - المعجزة - الإعجاز - التأليف فى الإعجاز»، معظم القضايا النظرية التى تشكل الإطار الواسع لهذه القضية التى صاحبت النص القرآنى المجيد منذ نزوله وإلى اليوم وإلى أن تقوم الساعة. وقد رفد د. حسين نصار هذين الكتابين النظريين بسلسلة كتب تطبيقية فى أساليب وقضايا قرآنية، ومن تلك الكتب: «الفواصل»، والفواصل فى القرآن الكريم بمنزلة القافية من الشعر. وكتاب «التكرار» و«المتشابه» و«فواتح سور القرآن»، و«القسم فى القرآن الكريم» و«الأمثال» و«الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم»، و«الصرفة والإنباء بالغيب». أما عن الجانب الإنسانى فى حياة د. حسين نصار تحدث عنه نجله د. أيمن حسين نصار مسجلًا مآثر والده الكثيرة قائلًا: ظل والدى طيلة حياته يؤدى الرسالة التى آمن بها، وعاش من أجلها فى إحياء التراث العربى والأدب العربى، متخطيًا جميع العقبات والعثرات بقوة وإرادة وعزيمة؛ فقد كان -رحمه الله- حريصًا على فرض نظام صارم فى حياته اليومية يحقق له هدفه ومراده. ويضيف: عاش والدى بسيطًا متواضعًا، واختار طريق الكد والتعب، مبتعدًا عن مظاهر الترف، فقد كان يسكن فى شقة متواضعة فى حى العجوزة، وظل يقيم بها إلى ما بعد الستين من عمره، وكثيرًا ما كان يعانى فى حياته من هذا المكان. أما المأثرة الكبرى فى شخصية د. حسين نصار على المستوى الإنسانى فقد رأها نجله د. أيمن فى «الاحترام» وعنها يقول: كان أبى يحترم كل شىء يتعامل معه، يحترم القلم حين يكتب، ويحترم الكتاب حين يقرأ، ويحترم الوقت فلا يضيعه إلا فيما يفيده وينفعه، وكان يحترم زملاءه حتى وإن اختلف معهم، وتلاميذه موجهًا لهم وناصحًا ومرشدًا، وهكذا كان فى بيته: يحترم زوجته )رحمها الله(، ويحترم أبناءه ويشاورهم فى كثير من الأمر، ويترك لهم كامل الحرية فى اختيار توجهاتهم وتحمل المسئولية عن مصائرهم. ولخص وزير الثقافة حلمى النمنم الحياة العلمية للدكتور حسين نصار فى خمس نقاط: الأولى- أنه تخصص فى اللغة العربية والأدب العربى، والبعض يظن أن ذلك ناتج عن ضعف فى اللحاق بركب العلوم الحديثة والانعزال والانقطاع عن العلم الحديث ولم يكن د. نصار كذلك، فقد انفتح على اللغات والثقافات العالمية واحتك بها وترجم إلينا منها الكثير. الثانية- اتجاهه إلى التراث العربى بالتحقيق والدرس مع اشتغاله بالترجمة. والثالثة- وهى الأهم أنه فى انفتاحه على الغرب واشتغاله بالتراث العربى والتحقيق لم ينس مصريته يومًا واحدًا؛ فقد تحدث عن الأدب المصرى فى التراث العربى وله دراسات عن كيف تعربت مصر وتعلمت اللغة العربية وما الذى أضافته مصر إلى اللغة العربية والتراث الإسلامى. الرابعة- أنه كان نموذجًا لعدم الانحصار داخل إطار التخصص الدقيق، بل كان منفتحًا على كل العلوم والمعارف، فهو يكتب فى التحقيق والمعاجم ويكتب أيضًا عن فن الموسيقى ويدرس ألف ليلة وليلة فى شغف ودقة. الخامسة- أنه رغم أكاديميته الشديدة لم ينقطع عن الحياة الثقافية، فلم يقبع خلف أسوار الجامعة، تلك الدائرة الصغيرة، فلا خير فى علم يظل حبيس المدرجات ولا يخرج إلى الناس. وعلى طريقة عباس محمود العقاد فى «عبقرياته» بحث د. محمد عثمان الخشت عن مفتاح شخصية د. حسين نصار ووجد أنه يتمثل فى «التصالح مع النفس ومع العالم»، فقد كان «نصار» ينأى بنفسه عن النزاعات والصراعات على حطام الدنيا الفانى وهذا على ما يبدو نتيجة الحياة المديدة التى عاشها العالم الكبير والتى أكسبته نقاء النفس والتصالح الذاتى الداخلى، وقد تجلى ذلك -كما يلفت الخشت- فى أشياء عديدة منها تدينه العملىّ، فقد كان يمارس الدين ببساطة وعمق دون أى شعارات أو زيف: يصوم ويصلى ويقيم علاقات إيجابية مع الناس من حوله مع ربط ذلك بالطابع المصرى الأصيل. واستهل د. أحمد درويش حديثه عن د. حسين نصّار مستشهدًا ببيت ابن الرومى الشهير: إنا إلى الله راجعون فقد غال الردى سيرة من السير وتابع: نحن أمام سيرة كاملة شارفت القرن عمرًا، وشارف علمها قرونًا من المعرفة. وهذه عادة العلماء عندما يرحلون فهم لا يرحلون عنا وإنما يرحلون فينا. لم يرحل حسين نصار وإنما ترك نموذجًا عظيمًا لفكرة العالم، الذى يصعب الحديث المفصل عن علمه الغزير وإنتاجه الوفير، ولكننا يمكن أن نلخص الملامح الكبرى لا من خلال تعدد أنماط المعرفة التى خاضها ولكن من خلال مهارته فى الحركة بين أطراف الدوائر التى يُظن فى البدء أنها متناقضة وأن على اللاعب أن يختار أحد طرفيها. ومن هذه الناحية -يستكمل درويش- تبدو الصورة مدهشة فى كثير من زواياها حتى على مستوى التخصص. ففى مجالنا يقال هل أنت عالم لغة أو عالم أدب.. عليك الاختيار. نصار منذ البدء طرق طرقتين حين اختار فى الماجستير سنة 1949 موضوع «نشأة الكتابة الفنية فى الأدب العربى». واختار فى الدكتوراه سنة 1953 موضوع «المعجم العربى: نشأته وتطوره:» فأصبح عالمًا فى اللغة وعالمًا فى الأدب. وعندما دخل «نصار» مجال الأدب وجد الدارسين يتقلبون بين قطبين: عراقة القديم وجلالته، ولمزاجة الحديث وجاذبيته؛ ويهرب الجميع من تلك الدائرة الرمادية الواقعة بينهما فاخترق هو هذه الدائرة حيث ألمّ بالفترة المملوكية والفترة المصرية فإذا به عالم موسوعى، عالم فى الأدب فى طرفيه القديم والحديث وشديد التخصص فى طرفه الوسيط الذى يثبت إلى جانب فرع المعرفة فرع الوطنية؛ لأن ذلك الطرف الوسيط هو مصرىّ بحت. ويمضى د. أحمد درويش فى بلورة العبقرية العلمية للدكتور حسين نصار، تلك العبقرية التى تصهر المتناقضات المتباعدات فى بوتقة واحدة، فيلاحظ أن د. نصّار جمع بين الأدب الرسمى والأدب الشعبى، فالرجل الذى يحقق أصعب الدواوين ويقود الشعر القديم بمهارة فائقة، هو الذى يبحث فى الأدب الشعبى ويتتبع طرقه ودروبه ووسائله ويصل منها إلى أشياء متشابهة. وإذا قيل حتى فى أطراف الثقافة العربية الإسلامية فى أى المجالين تميز؟ فإذا به هذه المرة يجمع أكثر ألوان البعد فيما يُظن تناقضًا، فهو عالم فى إعجاز القرآن ومترجم لأصناف الموسيقى. واختار د. عبدالحميد مدكور أحد كتب د. حسين نصّار ليتحدث عنه وهو كتاب «الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم»، وهو يرى أن الكتاب تضمن إشارات تدل على أن هذا الكتاب )القرآن الكريم( إنما هو كلام الله -عز وجل- وليس من كلام البشر؛ لأن فيه من المعارف والمعلومات والعلوم التى لم يكن أحد من الناس يعرف عنها شيئًا وقت تنزل القرآن الكريم. وقد تضمن القرآن -كما يعرض مدكور- بعض الآيات الدالة على عموم رسالته ومنها قول الله -عز وجل-: «ما فرطنا فى الكتاب من شىء». ومنها قوله: «ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شىء». وهذا دفع العلماء من قديم إلى دراسة هذه القضية، وانقسموا إزاءها إلى قسمين رئيسين: الأول- أن القرآن الكريم فيه إعجاز ينضم إلى أنواع الإعجاز الأخرى التى تحدث عنها البلاغيون والقائمون على دراسة التشريع والمتحدثون عن الإنباء بالغيب. الثانى- أن القرآن الكريم ليس فيه إعجاز ينضم إلى أنواع الإعجاز الأخرى. وقد لخَّص د. حسين نصار آراء القسمين السابقين فى نقاط منها: أن القرآن كتاب دعوة وتشريع وينبغى عدم إخضاعه للنظريات العلمية المتغيرة المتطورة. وأنه يميل إلى أن الحث على العلم والتدبر لا يجعل القرآن كتاب علم وإنما فيه إشارات تتحدى العقل الإنسانى وتثبت مصدرية القران الكريم. وانتهى د. حسين نصار بعد سبحه الطويل فى هذه القضية إلى أنه يجب أن نتصور طبيعة القرآن ووظيفته فى المقام الأول على أنه كتاب دعوة وتشريع وأنه لابد من معرفة مجال البحث معرفة دقيقة حتى لا يحيد الباحث عن الحقيقة. وإلى هنا انتهى كلام د. عبدالحميد مدكور. وأما عن تحقيق التراث فقد شغل جانبًا مهمًا من الحياة العلمية للدكتور حسين نصار، وأشهر تحقيقاته: ديوان ظافر الحداد، وديوان عبيد بن الأبرص الأسدى، وديوان الخرنق، وديوان جميل بثينة، وديوان قيس بن ذريح، وديوان ابن الرومى )ستة مجلدات(، والنجوم الزاهرة فى حلى حضرة القاهرة لابن سعيد الأندلسى، ورحلة ابن جبير، والجزءان السادس والثالث عشر من معجم تاج العروس للزبيدى. ومن أشهر ترجمات د. حسين نصار إلى العربية: مصادر الموسيقى العربية، وتاريخ الموسيقى العربية، والموسيقى والغناء فى ألف ليلة وليلة وثلاثتها لفارمر، والمغازى الأولى ومؤلفوها لهورفتس، وأرض السحرة لبرنارد لويس. وقد ألف حسين نصار فى مجال اللغة «معجم آيات القرآن الكريم»، و«مدخل إلى تعريف الأضداد» وبحوث و«مقالات لغوية»، و«دراسات لغوية». ونال د. حسين نصار العديد من الجوائز المصرية والعالمية منها: جائزة الدولة التقديرية فى الآداب 1968م، وجائزة الملك فيصل العالمية فى الآداب 2004م، وجائزة الرئيس مبارك فى الآداب 2006م. ودرَّس د. حسين نصار -إلى جانب عمله بجامعة القاهرة- فى معهد الدراسات الإفريقية، ومعهد الدراسات الإسلامية، ومعهد المخطوطات العربية، وجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، وأكاديمية الفنون. كما قام بالتدريس فى العديد من الأقطار العربية منها: السودان، والعراق، والسعودية. ذلك، وقد صاحب الندوة العديد من الأنشطة منها: معرض لبعض مؤلفات وتحقيقات وترجمات د. حسين نصار، ومعرض لصور الشهادات والأوسمة والنماذج الخطية التى حصل عليها، ومعرض للكتب نظمه منفذ البيع بدار الكتب لإصدارات د. حسين نصار بخصم 50٪، وإصدار كتابين جديدين للدكتور حسين نصار هما: «التحدث بنعمة الله» )سيرة علمية(، و«إحياء التراث».