تحدى تجاعيد الزمن، والتناغم مع كل العصور، للبقاء على القمة، أمر شاق للغاية، يستدعى التعجب، ويجعلك تقف حائرًا أمام ظاهرة عمرو دياب، ف"العظماء الثلاثة" أم كلثوم وعبد الحليم، وفريد الأطرش، لم يستطيعوا تحدى تجاعيدالزمن، رغم الجاه والرفاهية المتاحة لهم، غير أن "الهضبة" استطاع تحدى هذه التجاعيد، وليس شكلًا فقط، بل على صعيد "الحنجرة" أيضًا، فمعظم "جيل الهضبة" أصابه "الجمود" وفقدوا شعبيتهم مع توالى الأجيال، وفى مقدمتهم مدحت صالح، وعلى الحجار، ومصطفى قمر، وإيهاب توفيق، وباستثناء محمد منير، الذى ما زال يحتفظ ب"شعبيته"، غير أنه لم يستطع مواجهة "تسرسب السنين" وأصبحت التجاعيد تكسو وجهه، وبدت حنجرته ضعيفة مقارنة ب"أيام الشباب". ووفقًا للمشار إليه فى "السطور السابقة" سيبقى عمرو دياب "ظاهرة متفردة" عبر الأجيال، بعد احتفاظه ب"شباب الملامح والصوت" لعشرات السنوات. وجاءت الحفلة الأخيرة ل"الهضبة" التى حضرها قرابة "100" ألف، غالبيتهم من أجيال الشباب، لتثبت بما لا يدع مجال للشك، أنه لايزال يقف على "قمة البريق والإبداع"، ولم يستطع "عداد العمر" أن ينهش ملامحه وقدرته فى العزف على "مقامات الأجيال المتوالية". وكشف الصحفى "بلال فضل" فى برنامجه "موهوبون فى الأرض" أحد أسرار احتفاظ "دياب" بنجوميته طيلة هذه السنوات، مؤكدًا أنه قرر مؤخرًا، أن يكون الغالبية من فريق العمل الخاص به لايتجاوز أعمارهم "20" سنة، وقرر أن يجعلهم أصدقاءه ويقيم حالة معايشة معاهم، لاستطلاع أذواقهم، فضلًا عن جعلهم يعبرون عن جيلهم من خلال ألحانهم عبر بوابة صوته، وهذا يثبت دهاء عمرو دياب فى مواجهة الزمن، وتحقيق معادلة صعبة عجز أبناء جيله عن تحقيقها. يقولون إن الموهبة وحدها لا تكفى لصناعة "نجم"، وبمقاييس الغناء المعروفة، لا يمتلك عمرو دياب، حنجرة ذهبية، أو مساحات صوت مبهرة، ولكنه أدرك معادلة النجومية، وظل يتعامل بذكاء مع أطرافها المعقدة، ويجيد اختيار "لحظة الانقضاض"، ليظل محتفظًا ب"مملكته الغنائية"، بين جمهور عاشق له إلى حد "التوحد"، وجمهور "مضاد"، من النقاد الذين أجبرهم "عمرو"، على إبقائه دائمًا فى حساباتهم، وصنع لنفسه هالة من الغموض والانزواء عن الإعلام، وربطته علاقات وثيقة بجهات رفيعة المستوى، وبعيدًا عن شائعات الحب والخيانة، وحالات الزواج والطلاق، واختراق الحياة الشخصية، بقيت ملامح نجومية الهضبة محسومة، ومرهونة بأرقام مبيعات ألبوماته، وأجور حفلاته، التي فاقت مقاييس الخيال والمنطق، لتصل إلى أعتاب "موسوعة جينيس" كأول مطرب عربى تحقق مبيعاته أرقامًا "قياسية" بشكل يبدو "خرافيا". وبالعودة بالزمن إلى الوراء، على طريقة "الفلاش باك" السينمائية، نرى أن "عمرو دياب" عندما جاء من بلدته "بورسعيد"، لم يكن مجرد شاب طموح، يمتلك قدرًا من الموهبة الغنائية، وشيئًا من "الكاريزما"، ولكنه كان مسافرًا عبر أحلامه إلى القاهرة، وبداخله طاقة هائلة من التحدي، وقوة التحمل، التي وصفها فيما بعد، بأنها كلمة السر التى اقتحم بها عالم الفن، حيث قال "دياب"، فى أحد لقاءاته التليفزيونية القليلة: "إن قوة التحمل تكون أحيانًا أهم من الموهبة نفسها". منذ انطلاق ألبومه الأول "يا طريق"، عام 1983، اختار عمرو لنفسه طريقًا مختلفًا لينجو من "براثن التقليدية"، ويحفر على صخور التحدى، اسمًا رنانًا يبدو ك"نغمة موسيقية" مميزة أمتعت آذان جماهيره، وظهرت بشائر نجاحه عام 1986، عقب تخرجه فى معهد الموسيقى، لينقض نحو جمهور جديد من المراهقين، تراقص معه على موسيقى ألبومه الثاني"هلا هلا"، ليظهر بوضوح أن هناك نجمًا صاعدًا بقوة فى عالم الأغنية، وحانت إشارة بدء تعاون النجم الجديد، وقتها، مع الفنان "حميد الشاعري"، الذى لمع فجأة خلال منتصف الثمانينيات، وأثمر تعاونهما عن ألبوم "ميال"، الذى نقش خطوة جديدة على طريق نجاح عمرو دياب. وجاءت اللحظة الفارقة، فى رحلة عمرو دياب، حينما اختير لإحياء حفل افتتاح البطولة الإفريقية الخامسة، والغناء باللغتين الإنجليزية والفرنسية، إلى جانب العربية، ليصبح أول مطرب عربى شاب، يظهر على شاشة ""CNN، وبدا تأثيره واضحًا بين الشباب، فلا أحد ينسى "القميص" الأبيض المزركش بالنقط السوداء، الذى كان يرتديه عمرو، والذى ارتداه فى اليوم التالى نصف شباب مصر!، ليتحول عمرو دياب بعدها إلى "ماركة مسجلة"، وصيحة أزياء، وموضة بمفرده يلهث وراءها الجميع، وأولهم المطربون "ولاد كاره"، الذين تحول بعضهم إلى "نسخ كربونية" منه، إلى حد المسخ. اختار عمرو دياب، لنفسه أشكالًا موسيقية، تميل إلى اللون الغربي، مع الاحتفاظ ببعض المقامات الشرقية المهضومة لدى جمهور الشباب، ونجح فى مزج الموسيقى الأسبانية والإنجليزية بالعربية، فى بداية التسعينيات، بألبومات "حبيبي"، و"أيامنا"، و"ياعمرنا"، و"ويلوموني"، التى استخدم فيها آلات الساكسفون، والجيتار، جنبًا إلى جنب مع الطبلة والبيانو والدف، بما ظهر بوضوح فى صيحته المدوية "نور العين"، التى رسخت أقدامه فى مشوار العالمية بجائزة "ميوزيك آوورد"، عام 1996، واعتمد فى تصويرها على الساحات الشعبية فى أوربا، والأزياء الغجرية لحسناوات أسبانيا. ومن أقصى نقطة بعيدة فى مشوار العالمية، عاد عمرو دياب بنفس القوة فى اتجاه الإغراق فى المحلية، لتصوير أغنيته التالية "عودوني"، فى عبق النوبة التي تضاهى سحر الأجواء الأوربية، ليختتم الألفية الثانية بنجاح جديد لأغنيته "تملى معاك"، ثم يدخل، كطبيعة دورة الزمن، فى فترة خسوف إلى حد ما، ولم تلق ألبومات العقد الأول من الألفية الثالثة نفس حظ سابقاتها، وإن ظلت حفلاته فى طول الدنيا وعرضها، مثار جدل واسع، وتردد وقتها، أن صعود نجم "تامر حسني"، كان تطورًا طبيعيًا لأذواق جيل جديد، وسببًا مباشرًا فى حدوث "انقلاب" على حكم الهضبة ل"جمهورية الغناء"، ليطلق بعدها عمرو أكاديمية لاكتشاف المواهب على قناة يوتيوب، ويدشن موقعًا رسميًا، وإذاعة تحمل اسمه على الشبكة العنكبوتية، وتتوالى نبوءات نهاية الأسطورة، تحت مقصلة الزمن، وفجأة ينتفض عمرو كعادته، وتجيء لحظة "الانقضاض"، مرة أخرى، وتعيد حفلته الأخيرة، بالساحل الشمالي، بريق أضواء حفلاته الصاخبة فى تسعينيات القرن الماضي، فى هليوبوليس، وبيانكي، وتشتعل مواقع التواصل الاجتماعى من جديد، بآلاف الحكايات حول "برج الحوت"، الذى غنى له عمرو فى ألبومه الأخير "معدى الناس".