«بؤجة صغيرة ورغيف عيش بتاو وبصلة وبعض من المش» كانت هى الرسالة التى أرسلها عمال التراحيل اليه أثناء احدى رحلاته إلى صعيد مصر وتحديدا فى أسوان» فهم الرسالة وأدرك أن حال الغلابة يحتاج إلى تدخل عاجل وقرار يجعل عمال التراحيل يشعرون بأن هناك من يفكر فيهم.. «شفرة» فهمها عبد الناصر وبسرعة أخرج رأسه من النافذة محاولًا أن يرى الرجل الذى اختفى فى الزحام. لينادى عليه ناصر فى الزحام قائلا «الرسالة وصلت يا أبويا» ويكمل عبد الناصر رحلته لكنه لم ينس الرسالة التى حملها «المنديل المحلاوى» رمز عمال التراحيل ورغيف «البتاو» المصنوع من دقيق الذرة والحلبة. وأثناء إلقاء خطابه الجماهيرى قرر أن يبدأها برسالة يسمعها المصريون جميعا من جمال عبد الناصر ابن الصعيد إلى كل عامل تراحيل ومنهم «عم جابر» الذى قال له ناصر «أحب أقول لك إن الرسالة وصلت وأننا قررنا زيادة أجر عامل التراحيل إلى 25 قرشًا فى اليوم بدلا من 12 قرشًا فقط» مع قرار جمهورى بتطبيق نظام التأمين الاجتماعى والصحى على عمال التراحيل لأول مرة فى مصر. فقد كان ناصر يعتبر هذه الفئة هى «ملح الأرض» الذى بنى مصر، فهم بناة الأهرام وهم من شقوا الترع والمصارف وأقاموا الجسور والقناطر، ومات منهم 130 ألف شهيد أثناء حفر قناة السويس، ولذلك كانوا هم أول من ساهم فى بناء السد العالى بكل حماس وفخر. جاءوا من صعيد مصر يضعون آمالهم فى الثورة التى اهتمت بهم وبنت لهم معسكرات إيواء أثناء فترة العمل وقدمت لهم الوجبات الغذائية والرعاية الصحية. العدالة الاجتماعية نعم كان هذا هو جمال عبد الناصر الذى كانت طموحاته تكمن فى تحقيق العدالة الاجتماعية وانصاف الفلاحين من ذل العبودية والاقطاع فكان دائما يردد «ارفع رأسك يا أخى فقد مضى عهد الاستعباد». كان يسعى إلى خلق مجتمع متوازن إلى حد كبير ما بين فلاح يقتات من ريع فدادينه الخمسة التى منحها له الاصلاح الزراعى بعد أن كان أجيرا فى أبعدية أفندينا. أو موظفًا ربما لا يحصل إلا على أجر زهيد إلا أنها كانت تتناسب مع أسعار الإيجارات والظروف المعيشية التى تضمن له حياة كريمة. كان ناصر يسعى من خلالها إلى استرداد خيرات هذا البلد ويعيد توزيعها بشكل به قدر من العدالة الاجتماعية رصدتها دراسة أعدها د. محمد نور الدين مدير البحوث الاقتصادية بالبنك العربى وأهداها لروح جمال عبد الناصر بمناسبة مرور 40 عامًا على رحيله تناولت التوجهات الاجتماعية لجمال عبد الناصر والتى تولدت من عدة عوامل منها الوضع الاقتصادى والاجتماعى فى مصر قبل الثورة والتباين الشديد فى توزيع الثروات والدخول، فعندما تسلم ناصر الحكم كان هناك 960 شخصا فقط يسيطرون على كل الوظائف الأساسية فى مجالس إدارات الشركات الصناعية، من بينهم 265 مصريا فقط. وكانت البنوك الأجنبية تسيطر على معظم النشاط المصرفى وتستحوذ على معظم الودائع فكانت مصر على حد وصف الدكتور عبد الجليل العمرى الاقتصادى الليبرالى أشبه ببقرة ترعى فى أرض مصر، ولكن ضروعها تحلب خارج مصر. فلسفة الثورة كان ناصر يدرك جيدا أن مصر لا بد أن تدافع عن المرحلة الجديدة التى تتحرك اليها فكان يرى كما جاء فى كتابه «فلسفة الثورة» أن شعوب الأرض لها ثورتان الأولى سياسية يسترد بها الشعب حقه فى حكم نفسه والثانية ثورة اجتماعية، تتصارع فيها طبقاته ثم يستقر الأمر فيها على ما يحقق العدالة لأبناء الوطن الواحد ومن هنا كانت قرارات الثورة فى محاولة تقليل الفوارق الطبقية بفرض ضرائب تصاعدية على الدخول تصل شريحتها العليا إلى 80 ٪ من إجمالى الدخل الخاضع لها. ووضع حدود قصوى للأرباح السنوية وللعمليات التى تقوم بها شركات القطاع الخاص، بما يحول دون الاحتكار من ناحية، ويفتح الباب أمام قيام مزيد من الشركات الجديدة التى يمكن أن يتوسع معها سوق العمل ليضم الخريجين الجدد. وحظر شغل الشخص الواحد لأكثر من وظيفة فى الحكومة والقطاع العام وفى ظل هذه القرارات كان التزام الدولة تجاه مواطنيها بتعليم أولادهم مجانًا فى جميع المراحل حتى الجامعة مع توفير فرص عمل ورعاية طبية مجانية أو منخفضة التكاليف، وحد أدنى للأجور ونظام تأمينى اجتماعيا بعد التقاعد، وأن توفر لهم حدًا أدنى من السلع والخدمات الأساسية اللازمة لهم ولأسرهم بأسعار منخفضة، ليكونوا قادرين على العمل والإنتاج، وأن ترفع عنهم سطوة كبار الملاك والرأسماليين. وفى مقابل ذلك كان على الطرف الآخر أى العاملين أن يقبلوا بأجور منخفضة نسبيا لكنها تزيد سنويا بما يكفل حدًا ادنى من مستوى المعيشة المعقول. أهداف الثورة فى محاولة لحل المشكلة الزراعية وسيطرة كبار الملاك العقاريين لجأ عبد الناصر إلى إعادة تنظيم الإنتاج فى الريف بالقضاء على سلطة كبار الملاك ونفوذهم، عن طريق قوانين الإصلاح الزراعى التى صدر أولها بعد الثورة بأسابيع قليلة. وقد أدى ذلك ليس فقط إلى تقليص الدور الاقتصادى لكبار الملاك وإنما نزع منهم ما كانوا يتمتعون به من سلطة نفوذ وسطوة فى الريف المصري، سواء من شغلهم لوظائف العمد والمشايخ أو عضوية مجالس إدارة الجمعيات الزراعية، فضلًا عن دورهم من خلال الأحزاب السياسية والجهاز الحكومي. كما تم حظر ملكية الأجانب للأراضى الزراعية وانتقلت السلطة على الريف تمامًا وبشكل كامل تقريبًا من كبار الملاك والمرابين وتجار المدخلات الزراعية والسماسرة إلى الدولة بمؤسساتها المختلفة، حيث أصبحت هى من يقدم المدخلات ويحصل على معظم المخرجات وينظم العملية الانتاجية ويحدد شروطها سواء فيما بين العاملين فى الزراعة وبعضهم البعض أو فيما بينهم وبين الدولة. كما كان قرار تحديد الملكية الزراعية وسيلة لدفع كبار الملاك والمضاربين العقاريين إلى توجيه جزء من أموالهم للصناعة، ولتضييق دائرة الفقر فى الريف، وتوسيع السوق اللازم لاستيعاب منتجات الصناعات الوليدة التى كان لا بد من إقامتها سواء للإسراع بمعدلات النمو أو لاستيعاب جزء كبير من العمالة الزراعية التى تزيد عن الحاجة الفعلية للزراعة. أى أن الإصلاح الزراعى لم يكن بحال من الأحوال عاكسا لاتجاه اشتراكى تبناه عبد الناصر ولكنه كان إجراء يستكمل فى الواقع عملية التطور الرأسمالى التى بدأت منذ النصف الثانى من القرن التاسع عشر والتى لم تنجح ثورة 1919 والبرجوازية المصرية فى حلها. على أن الأهم فعلا كان هو التغير الذى طرأ على أوضاع الفلاح المصرى وأسرته حيث تم إنشاء المدارس والوحدات الصحية وارتفعت نسبة الوعى ومعدلات التعليم وتحسنت الأوضاع الصحية والاقتصادية فى الريف بفضل الثورة. الطبقة الوسطى عبدالناصر عرف أهمية الطبقة الوسطى واستطاع أن يوسعها ويزيد من عددها فقد كان ناصر فخورا بانتمائه للطبقة الوسطي، فأبوه كان موظفا بسيطا فى البريد مرتبه 25 جنيها، وهذه الوظيفة منحته درجة أعلى فى السلم الاجتماعى جعلته ضمن الطبقة الوسطى حتى لو كانت فى أدناها، فالوظيفة قبل ثورة يوليو كانت وسيلة لرفع مستوى المعيشة، والارتقاء بالوضع الاجتماعى للأسرة. لذلك كان ناصر يفخر بأنه يشترى الملابس والمنتجات المحلية بما فيها السلع المعمرة. وكانت فكرة النهوض بالطبقة الوسطى واستقرارها من أهم الأهداف التى سعت اليها الثورة فلقد انتصر عبدالناصر وانحاز لها من خلال قرارات وقوانين منها قانون الإصلاح الزراعى الذى جعل عددًا كبيرًا من الفلاحين ملاكًا للأراضى، مما أتاح لهم تعليم أولادهم، الذين تقلدوا وظائف مختلفة فأصبح منهم الأطباء والمهندسون والمدرسون والقضاة وضباط الشرطة، كما كانت مجانية التعليم سببًا فى ارتقاء عدد من الأسر الفقيرة ووصولهم إلى الطبقة الوسطى التى زادت مع حركة التصنيع والتوسع فى إنشاء المصانع وتزامن معها انشاء المدارس، بواقع مدرستين كل ثلاثة أيام لتصبح الفرصة متاحة أمام الجميع لتحصيل العلم وفقا لقدراتهم العلمية وليس وفقا للإمكانيات المادية لأسرهم. كما زاد الاهتمام بالتعليم فى موازنة الدولة وهو عنصر هام أتاح الفرصة لتوسيع القاعدة الاجتماعية للطبقة المتوسطة التى تعتمد عليها الثورة لشغل الوظائف فى الجهاز الإدارى للدولة وفى شركات القطاع العام. الدعم دعم الفقراء وأبنا الطبقة الوسطى وتقليل الفوارق الطبقية كان أحد أهم أهداف الثورة التى قدمت الدعم «للخبز والسلع الغذائية» مثل اللحوم والدواجن والأسماك المجمدة، بالإضافة إلى الدقيق والسكر والشاى وزيت الطعام والكيروسين والصابون والأرز والعدس والفول والحلاوة الطحينية بتوفيرها بأسعار منخفضة للطبقات الفقيرة والمتوسطة كنوع من إعادة توزيع الدخل، عن طريق زيادة الدخل الحقيقى بمعدل أكبر من زيادة الدخول النقدية خاصة للعاملين بالحكومة والقطاع العام. الدعم شمل أيضًا تقديم قروض ميسرة، فى الإسكان، وفى وسائل النقل العام والى بعض الشركات الصناعية كى تظل أسعار منتجاتها رخيصة منها السلع الغذائية والمنسوجات والسلع الوسيطة. وقد استخدمت الثورة سياسة الدعم غير المباشر ليس فقط من أجل رفع مستوى معيشة الفقراء، ولكن لتحقيق أهداف أخرى متمثلة أحيانا فى قيام شركات القطاع العام بتوفير السلع المعمرة كالثلاجات والغسالات وافران الطهى وأجهزة التكييف بل والسيارات، بأسعار منخفضة نسبيا وذلك تلبية لاحتياجات موظفى الجهاز الإدارى للدولة أو القطاع العام. الحراك الاجتماعي فى ظل سياسة نشر التعليم المجانى وتقليل الفوارق بين الطبقات وإلغاء الألقاب المدنية والامتيازات الأخرى التى كانت تتمتع بها الطبقات القديمة أصبحت قيمة العمل قيمة أساسية فى المجتمع. واتيحت الفرصة للخريجين للالتحاق بالعمل فى الحكومة وشركات القطاع العام طبقا لمؤهلاتهم وخبراتهم وبغض النظر عن نشأتهم الطبقية وأحوالهم الاجتماعية. كما سرى الأمر نفسه بالنسبة للالتحاق بالكليات العسكرية والشرطة والقضاء والنيابة والسلك الدبلوماسى وغير ذلك من الجهات التى كان التعيين فيها مقصورًا على أبناء الطبقات العليا فقط. وقد أدى ذلك إلى تولى الكثير من أبناء العمال والفلاحين والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى وظائف ومهام مرموقة، انتقلت بهم وبأسرهم إلى مراكز أعلى من الناحية الاجتماعية، ليشكلوا جزءًا من الطبقة الجديدة التى كانت الثورة هى الداعم الرئيسى لاستمرارهم.