لا أظن أننى رأيت الرئيس سعيدًا قدر هذه المرة، لقد تابعت لقاءاته وزيارته وتصريحاته فى أسوان، كسر كل الحواجز تجاوز البروتوكول، خلع الرداء الرسمى، وعاش كأنه واحد من أبناء الصعيد. فى أول حوار تليفزيونى مع إعلان ترشحه للانتخابات الرئاسية، وجه الرئيس السيسى خطابا عاطفيا إلى أبناء الصعيد، تحدث عن رجولتهم، ومعدنهم الأصيل، الذى تعرف عليه من خلال علاقته بهم داخل القوات المسلحة. ومن أسوان راح الرئيس يكرر ذات الكلمات، يغوص بنا فى التاريخ، من زمن عمر مكرم إلى عبدالناصر إلي العقاد إلى الأبنودى، لقد عاشرهم فى الجمالية، حيث ترعرع الرئيس، وراح يسدى إليهم بأحلى الكلمات. انظر إليه وإلى طريقة تعامله مع الناس، مع الشباب، مع السيدة العجوز التى أصر أن يسقيها الماء بيديه، إلى جولته الحرة فى الشارع، وفى شركة كيما، واحتضانه للجميع.. إنها المرة الأولى منذ فترة التى نجد فيها الرئيس سعيدًا وسط الناس فى الصعيد، لقد حاصرته الهموم من كل اتجاه: والأزمات، المشاكل، الإرهاب، تحديات الداخل ومؤامرات الخارج، أوجاع الفقراء، الفساد الذى استشرى والخراب الذى طال نفوس الكثيرين. لقد بدا السيسى أمام الناس فى أسوان، كأنه واحد منهم، لا رئيس ولا غفير، مواطن مصرى اسمه عبدالفتاح السيسى، كما يحلو له أن يصف نفسه. لم يفاجأ السيسى بلغة الصراحة التى تحدث بها الشباب، بكلمات السيدة «وردة» القناوية، التى تنضح وطنية وانتماء، فهكذا هم الصعايدة، وكم كان سعيدًا بصراحتهم وكلماتهم. وقد ضرب شباب الصعيد مثلاً فى أدب الحوار، واحترام الضيوف، والالتزام التنظيمى، والوعى المتقدم فى مناقشة الملفات المطروحة.. وفى هذا اللقاء ظهر المكتب الرئاسى بصورة متميزة، أداء رفيع المستوى، جهد وعمل دؤوب من الناحيتين الفنية والتنظيمية اختيارات موفقة للنماذج الشبابية التى كرمها الرئيس، إدارة حاسمة لجلسات المؤتمر.. فى هذا المؤتمر بادل الرئيس الشباب وأهل الصعيد، الصراحة بصراحة، قالها بكل وضوح «إننى على يقين أنكم لم تحصلوا بعد على ما تستحقونه، أدرك حجم معاناتكم على مدار عقود من مشكلات متراكمة، طالت مناحى الحياة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، وقس على ذلك!! يعرف الرئيس أن الصعايدة لا يميلون إلى الشكوى، لديه صبر وعناد شديد، يقدرون الظروف، ويتحملون بكل قوة تداعيات الأزمة، والمشاكل. ويدرك الرئيس أن أبناء الصعيد، هم جزء من هذا الكيان الوطنى، يذوبون عشقا فى ترابه، لم يخربوا البلاد، ولم يكونوا طرفا فى الفوضى، ولا يوجد حائط فى صعيد مصر كتبت عليه العبارة القميئة «يسقط حكم العسكر». فى الحرب أسود، وفى السلم رجال دولة، لا يخافون أحدا، لكن خوفهم الأساسى على الوطن، ومنظومة القيم التى تحكم علاقاتهم الاجتماعية. قبل أن يذهب إلى مؤتمر الشباب فى أسوان، فعلها الرئيس كعادته، قرأ كل الملفات، والأزمات، وضع يده على أوجاع الصعايدة وعندما تحدث، تحدث بلغة العارف، وهاله كثيرًا صبر الصعايدة على الفقر والبطالة وندرة الخدمات. يعرف الرئيس أن تقرير الجهاز المركزى للإحصاء قال فى تقريره عن العام الماضى «إن 58٪ من أبناء الصعيد تحت خط الفقر» ويدرك الرئيس أن أكثر المحافظات ارتفاعًا فى نسبة الفقر هى فى أسيوط وسوهاج وقنا والأقصر وأسوان، وبالرغم من ذلك فإنهم صابرون. انتظر أبناء الصعيد كلمة الرئيس الختامية، فجاءت الكلمة لتبعث فيهم الأمل من جديد.. حدثنا عن إنشاء الهيئة العليا لتنمية جنوب الصعيد باستثمارات تصل إلى 5 مليارات جنيه خلال الخمس سنوات المقبلة. حدثنا عن مشكلة أهلنا من أبناء النوبة، غير المشروعات التنموية فى مركز نصر النوبة ووادى كركر وتخصيص مبلغ 320 مليون جنيه، وبكلمة واحدة انهى مشكلة «فورقندى» واخرجها من مشروع المليون ونصف المليون فدان، لتكون أرضها )12 ألف فدان( خاصة بأبناء النوبة، أصحابها الحقيقيين، خلال ثلاثة أشهر مع تعويض من لم يعوض كلف المهندس إبراهيم محلب بمتابعة أحوال القرى النوبية الأربع وأربعين تنفيذًا لما نص عليه الدستور، وتلبية لمطالب أهلنا الذين صبروا كثيرًا وتحملوا كثيرًا، كم كنت أتمنى أن أسمع صوت ابن النوبة وابن مصر «محمد منير» فى هذا اليوم. لقد أوصى الرئيس بإطلاق مشروع قومى لإنشاء مناطق صناعية متكاملة للصناعات الصغيرة ومتناهية الصغر، تبدأ مرحلتها الأولى بإنشاء 200 مصنع صغير، بكل محافظة من محافظات الصعيد خلال الستة أشهر المقبلة. لقد كانت النقطة الأهم فى حديث الرئيس عن ضرورة الإسراع فى تنفيذ «المثلث الذهبى» - قنا - سفاجا - القصير على خمس مراحل متتالية، والذى يستهدف إنشاء مناطق صناعية تعدينية ومناطق سياحية-عالمية، تتيح له أن يصبح منطقة عالمية جاذبة للاستثمار. لقد تحدث الرئيس عن التحديات التى تواجه الدولة المصرية، وقال: إنها الأكبر فى تاريخها، وأن مصر تسعى بدأب للحفاظ على بقائها وإعادة بناء مؤسساتها، تحدث عن الإرهاب والفساد، وأكد أن الدولة عازمة على المضى فى حربها ضدهما بلا هوادة. لقد نجح الرئيس فى بناء جسر فولاذى فى علاقته مع شباب الصعيد، وثق فيهم، ووثقوا فيه، حدثهم بلغتهم، وخاطب عقولهم، كما خاطب عواطفهم، إنه يدرك أنهم رجال، إذا قالوا صدقوا، وإذا وعدوا فهم لا يخلفون وعودهم. إن هذا الإحساس اليقينى، هو الذى دعا الرئيس فى نهاية حديثه إلى مناشدتهم بالقول: «أقول لشباب الصعيد، أنتم أبناء الأرض الطيبة، فكونوا كأجدادكم، صخرة تتحطم عليها أى محاولة للنيل من الوطن، عززوا من صفاتكم النبيلة القائمة على أخلاق الكرامة، واعلموا أن عصور ازدهار مصر انطلقت من أرضكم، كونوا أنتم اليوم فى الطليعة والريادة وقودوا حركة البناء والتنمية، حافظوا على الوطن، تمسكوا بهويتكم وثقافتكم ولا ترضوا عنها بديلًا». تلك كانت الخاتمة، إنها تحوى رسائل واضحة، وكلمات محددة، وأظن أن رسالتك وصلت إلى كل أهل الصعيد، بالضبط كما أن رسالتهم وصلت إليك، فكان التجاوب سريعًا، فالتقت القلوب قبل العقول، وأظن أن ذلك هو سبب سعادتك وسعادتهم على السواء. لقد راهن السيسى منذ البداية على الشباب، ويبدو أنه يمضى نحو كسب الرهان.