قد تدخل فيلم «مولانا».. وأنت تتساءل.. يا ترى من ستكون له البطولة؟ وهل يا ترى «مولانا» هذا السينمائى من أين سيمتد ملامحه، من ملامح هؤلاء الدعاة الجدد وهم بعدد حبات الليمون الذى لا يحصى.. أم سيكون نجمًا سوبر مثله مثل عمرو خالد، أم خالد الجندى، أم خالد الثالث أو الحادى عشر؟.. أم بعض من هذا على ذاك؟. وقد تخرج من الفيلم ولحسن الحظ.. لتكتشف أنه عصارة تجربة جد عميقة وخاصة بعد تجارب موجعة خاضها المؤلف «إبراهيم عيسى» فى أروقة السياسة والصحافة والفضائيات.. فرسم لنا ملامح لبطله.. ملامح إنسانية.. وهو يأخذ سمت الدعاة الجدد.. ويرسمه كبطل درامى حديث ابن عصره وظروفه له مواطن ضعف وقوة.. لا كبطل تراجيدى مجيد يسعى لحتفه بقوة دون أن يدرى! إنه بطل من زماننا ليس على طريقة «لرمنتوف» الكاتب الروسى.. بل على طريقة عصرية من لحم ودم.. أزهرى المنشأ والمنبت والتكوين والدراسة.. يرتدى الحديث وفى أعماقه الأصيل.. أما المصير.. فقد لعب القدر لعبته.. وقفز به من مقرئ، وخطيب فى مسجد صغير.. إلى «داعية» «سوبر» تتقاذفه الفضائيات، ويتنافس عليه أصحاب رؤوس الأموال من رأسمالية المحاسيب الذين يشكلون مع السلطة فى عصر المخلوع، زواجًا كاثوليكيًا.. أو كماشة مصالح كبرى أدركها ذاك الداعية المدعو الشيخ «حاتم الشناوى» منذ الإطلالة الأولى على الشاشة.. وأبصر ذاك الثالوث المكون من السياسة والدين وبينهما يرتع المال «السايب» كما يقولون، وبالتالى فإن قانون «ذهب المعز أم سيفه» قائم بقوة.. ومنذ البداية اعترف مولانا لأبيه بأنه تاجر علم.. ولأنه يمتلك ذكاء نادرًا، وخفة ظل، وغزارة فى العلم فقد اختار ألا يكذب، وألا يدخل فى فساد.. وهو يعرف مسبقًا الدور الذي يلعبه وحدوده ويؤكد «كل ما أقوله فى العلن هو كلام مؤمن به.. لكنه على الحواف ومن فوق السطح.. فى الوعظ والإرشاد، وتذكرة الناس وقصص التاريخ.. الأساس فيه الوعظ وليس العظة، الدعاية للدين وليس الاعتبار والتبصر -يقصد التفقه فى الدين- فتاوى للحياة اليومية لكنها لا تغير فى حياتهم ولا فى أنفسهم». هذا باختصار هو الداعية «حاتم الشناوى» الذى نراه فى فيلم مولانا إخراج «مجدى أحمد على» وقد قام بكتابة السيناريو والحوار.. ورغم أن الفروقات بين الرواية والفيلم ليست جوهرية إلى درجة كبيرة. لأن قماشة الرواية واسعة للغاية «548 صفحة» والأحداث متشبعة للغاية.. فقد اختار المخرج أن يركز على بناء الشخصية الأساسية «البطل» وتطورها، وصراعاتها الرأسية ويستثنى بعض الأحداث الشائكة والمؤثرة.. منها على سبيل المثال علاقته بزوجته وخيانتها له وأيضًا معرفته الخاصة بمرض ابن الرئيس الشائه والذى لا شفاء منه.. عن طريق الشيخ مختار الحسينى.. والذى من ورائها زجوا بذاك الشيخ فى المعتقل وتخلصوا منه بعد تسويد سمعته!! وربما رأى المخرج أنه إذا جاء بمثل تلك الأحداث والتفاصيل قد يتأثر الصراع وقد يشوش على الأحداث الكبرى.. قد يكون مفتاح الأحداث يتركز فى مقولة الشيخ حاتم «إن المسلم القوى هو المسلم العارف والمسلم الضعيف هو المسلم الجاهل».. وهى التى يستخلصها من زواج الرسول بزينب بنت جحش قد دفع الشيخ «حاتم» دفعًا لكى يعرف أسرار ولاد الأكابر.. بعد أن ذاع صيته.. وظنوا أن يده طايلة فإذا بابن الرئيس المخلوع يسعى للقائه.. وإذا به وجهًا لوجه معه بل مع زوجته.. التى تأتمن الشيخ حاتم على سر الأسرار.. وهو «تنصر» شقيقها الأصغر «حسن» فبهت الذى كفر.. نعم حاتم يعرف حكايات عديدة عن التنصر والانتهازيين.. خاصة ذاك الصيدلى الذى سخر منه وسأله لماذا لم يتزوج الفتاة التى ادعى أنه ساعدها على تغيير دينها؟!.. دارت الأرض بالشيخ.. وتوقف الكلام فى «الزور».. وهو يشعر بمدى ضعف الآباء تجاه الأبناء.. وأنه لا يزال يعانى ألم فراق طفله الذى وقع فى حمام السباحة.. وهو لا يزال يعانى الرقاد بين الحياة والموت -أى الطفل- فى إحدى المصحات الأوربية.. بينما زوجته تمنعه من الزيارة خشية ضعفه تجاه طفله الذى يأخذ شكلاً مرضيًا حادًا!! صار مولانا «حاتم» مجبرًا على علاج «حسن» أو «بطرس» كما تمسك الشاب باسمه الجديد، و«حاتم» ضمن سلاسل من الإقناع يعترف لحسن بأنه يحجب رأيه الحقيقى عن السلطة.. بل عن سلطة الناس أنفسهم.. لأن المجتمع لا يحب أن يعلم الحقائق.. وإنما يسير وراء القشور ولكن حسن لا يستجيب «لمولانا» الأمر الذى يصفعه بأن الدين ليس لعبة.. وهو أمر شاق ومعقد.. وهو يؤكد له: الدين يا حسن من الأمور الصعبة للغاية لأنه لا ينفتح أبدًا عليك مرة واحدة بل ينمو معك كما ينمو جسدك وتفكيرك».. وحسن يركب رأسه فى عناد يشبه عناد الأطفال.. ربما لأنه يريد أن يحطم سلطة الأب المستبد ويتحدى فساد تلك الطبقة التى رآها فى العمق! حد أن «حسن» فى مشهد رهيب يذبح نفسه من الوريد إلى الوريد لكن هذا الفعل الدموى لا ينطلى على «مولانا» يوبخه ويؤكد له أنه لم يذبح بالعمق الكافى الذى به ينهى الحياة! ويظل السجال قائمًا إلى أن يلقى البوليس على «حاتم» مع مجموعة من الشباب المنصر بمن فيهم «حسن».. فيتأكد «لمولانا» أنه صار الهدف!! الشيخ «حاتم» غرف من العلم والمعرفة الكثير.. وقد لمَّح ببعض من علمه وتفاسيره فى السيرة النبوية وفى الأحاديث المشكوك فيها للبخارى ومسلم، ورفض أن ينصاع لحرب المذاهب المفتعلة بين الشيعة والسنة.. ودافع عن المعتزلة لإيمانهم بإعمال العقل.. ورفض أن يطلق على المسيحيين أهل الذمة! نعم سرب بعضًا علمه لمن يشاء، ووقع فى الخطيئة مع فتاة دست عليه! لكنه حاول بكل قوة أن يحارب مشايخ السلطان.. الآكلين على كل الموائد. وفى مشهد بديع فى الفيلم وبصورة مكبرة من عدسات المخرج مجدى أحمد على.. صور من أعلى «الكادر» تلك المأدبة التى أعدها النائب ورجل الأعمال «أبو الحديد» لشراء الذمم والذى أريد للشيخ «حاتم» أن يقع فى الفخ نفسه.. فإذا به يعرى الصفقة وهو يصفها والجمع.. «هذا ملهى ليلى دون كحول، والمصالح هى «الرقاصة» التى ترقص بينهم!». حقيقة إننا نرى فى الفيلم نقلًا عن الرواية التى استغرقت 3 سنوات 2009: 2012.. نرى ملامح عصر كامل من الفساد، وزواج السلطة كرجال الأعمال برجال الدين «والمتاجرين به».. ومدى تغلغل الأمن الذى هو الذراع الطويلة للسلطة فى كل صغيرة وكبيرة.. وبالتالى يقع «حاتم» فى المحظور رغم أنه نأى بنفسه بشدة عن مواطن الفساد والشبهات!! وجاهد واجتهد فى إعادة الشاب حسن إلى صوابه، حد أنه استضافه فى منزله، وقام معه برحلة فى العمق قابل فيها القساوسة ودعاة التبشير ووضع معهم عهدًا ليمنعوا عن حسن ويتركوه لحال سبيله. قد يكون خيال «إبراهيم عيسى» كزرقاء اليمامة فيضعنا فى نهاية روايته والفيلم أمام حادث «البطرسية» لأن حسن غافل الجميع.. وبعد أن شتت جهودهم.. تحول إلى إرهابى ففجر الكنيسة فى الفيلم ولاذ بالفرار خارجها.. أما فى الواقع القريب ففجر الاثنين معًا: الكنيسة ونفسه.. ولهذا من يتأمل «مولانا» بعمق.. سيشعر أنه فجر فينا وعيًا.. أحوج ما نكون إليه فى لحظتنا الراهنة.. لحظة مواجهتنا للإرهاب والتى يتحتم قبلها مواجهتنا لأنفسنا بالأساس.. إن «مولانا» أشعرنا أننا أمام فنان عبقرى ولد معه وبه اسمه «عمرو سعد».. ومخرج يثبت لنا أنه يخرج القضايا الكبرى منذ فيلمه «أسرار البنات» وابنه «أحمد مجدى» فى دور حسن أو بطرس أو الإرهابى حقيقة يعد إضافة فنية فى حين تتراجع «درة» لتصبح ظلًا باهتًا ويتقدم عليها الاكتشاف «رمزى العدل» فى دور الشيخ الصوفى مختار الحسينى. إن «مولانا» يحاول تعديل المسار.. وينبه العقول.. وهو إذ يرفض بداية بأن المسيحيين أهل الذمة.. وهذا ما صرح به مؤخرًا «مولانا» شيخ الأزهر.. أو ليس هذا هو دور الفن الواعى والجاد فى إشاعة وعى «كالمشكاة» التى يتبعها الآخرون بحثًا عن الدفء الإنسانى والوطنى فضلًا عن الاستنارة الإنسانية؟!.