لم تكن تلك هي المرة الأولي، منذ عدة أشهر كنا نتجول في قري النوبة، نبحث عن واقعها، مشكلاتها، نستمع إلي أهلها البسطاء، لنقدم تقريرًا إلي مجلس النواب، كان الشعور السائد يأخذك إلي عنان السماء، وكانت العيون تطل بحلم العودة إلي الجنوب. يومها تركت زملائي من أعضاء اللجنة المكلفة، وذهبت أبحث عن التفاصيل، هؤلاء أهلي، يربطني بهم تاريخ طويل، منذ الصغر كانت «الكنوز» النوبية، تجاور بلدتي «المعنا» في قنا، أعرفهم جيدًا، وتمضي الأيام تجسد الحلم، وبدأت أقرأ المعاناة بشكل مختلف. حدثني زميلي النائب «ياسين عبدالصبور» أنه نائب «نصر النوبة» في أسوان، حكي لي الواقعة، لقد تم إيقاف «قافلة العودة»في عرض الطريق في الصحراء، كانوا مجموعات من الشباب، قرروا الذهاب إلي منطقة «فور قندي»، لم يكن لهم هدف، سوي إعلان احتجاجهم علي طرح أراضي هذه المنطقة للاستثمار بعيدًا عن أصحاب الأرض «الأصليين»، وقفة ثم يعودون، تم إيقافهم عند الكيلو )40( علي طريق أسوان أبو سمبل، رفض الشباب المغادرة والعودة مرة أخري، قرروا البقاء في مكان توقيفهم، وتم قطع الطريق. في اليوم التالي الاثنين، كان موعدي مع رئيس مجلس الوزراء، ذهبنا وفدًا من مجلس النواب، التقيناه لمدة ساعات، تحادثنا سويًا كنا أربعة من النواب، السيد حسن موسي عن لجنة الزراعة، ومحمد الغول عن لجنة حقوق الإنسان، وعمرو أبو اليزيد نائب بولاق والذي يعود بجذوره إلي منطقة النوبة، وأنا.. كان كلام رئيس الحكومة واضحًا، الأولوية المطلقة في تملك هذه الأراضي لأهالي النوبة، دار حديث مطول بيننا، أبلغني عدة رسائل لأهل النوبة عندما علم أنني مسافر إليهم في اليوم التالي. في الصباح الباكر كنت أنا وزميلي النائب محمد سليم، نائب «كوم أمبو» نغادر إلي هناك، وصلنا إلي أسوان، كان الاعتصام قد سيطر علي أحاديث الناس، منذ ساعات قليلة، تم فض قطع طريق المطار، وطريق السكة الحديد، لم يتبق سوي طريق «أسوان أبو سمبل». مضينا علي الفور إلي هناك، السيارات مكدسة علي الطريق، قوات الأمن تمنع مغادرة المعتصمين إلي «فور قندي»، قبيل الوصول إلي حرم المكان، اتجهنا شمالاً إلي قرية «كركر» النوبية، إذن هذه هي المدينة، التي تكلفت الدولة أكثر من 2 مليار جنيه في بنائها، إنها تبدو خاوية من البشر، مجموعات قليلة التي نزحت إليها، لكن لا مظاهر للحياة الحقيقية علي أرضها، لا تنمية، لا مشروعات، ولا زراعة. جلسنا في «المندرة» الرئيسية، التف حولنا عدد من الرموز النوبية، بقينا ننتظر اللجنة التنسيقية للمعتصمين، جاءوا إلينا، مجموعة من الشباب المتحمس، ست ساعات ونحن نتحاور سويًا، تحدثنا في كل شيء، في الأزمة والمشكلات، في الوعود السابقة، في مسألة عدم الثقة التي تولدت نتاج تاريخ طويل، كان زميلي محمد سليم نائبًا سابقًا عن «كوم أمبو» ومركز «نصر النوبة»، إنهم يعرفونه ويثقون فيه جيدًا، وكان زميلنا ياسين عبدالصبور النائب الحالي، يتابع مفاوضاتنا أولاً بأول. قبيل نهاية الحوار، جري اتصال مع تامر عوف مستشار رئيس الوزراء للاتصال السياسي، أبلغنا بأن رئىس الوزراء مستعد للقاء وفد من أبناء النوبة، ليبحث معهم المشكلة من جذورها، وكذلك د.علي عبدالعال، الذي كان يتابع معي الحدث، قبيل زيارته إلي المجر بقليل، ووعد باستقبال الوفد فور عودته. كان الكل مجمعًا خلال اللقاء، علي أن جذور الأزمة الراهنة، تعود إلي إقرار المادة 216 من الدستور في عام 2014، تلك المادة التي نصت علي حق العودة للنوبيين خلال 10 سنوات، وعدم التصرف في أراضي بحيرة ناصر، قبل إنهاء الاستحقاقات النوبية، وفي مقدمتها إقرار قانون إنشاء الهيئة العليا للتوطين واعمار وتنمية النوبة الأصلية. بعد انتهاء الحوار المطول، طلب أعضاء اللجنة التنسيقية فسحة من الوقت للتشاور مع المعتصمين، التقينا القيادات الأمنية وفي مقدمتهم مساعد الوزير ومدير الأمن اللواء مجدي موسي وعدد من القيادات الرئيسية، تلاه لقاء مع المحافظ ونواب أسوان، وعندما عدنا إلي الفندق، كان الوفد قد جاء إلينا، حاملاً الرد، عقدنا جلسة لقاء استمرت حتي الثانية عشرة مساء، قال لنا «منير بشير» أحد أبرز شخصيات هذه اللجنة «لقد قررنا فض الاعتصام في الثالثة فجرًا» سادت الفرحة كل الحاضرين، أخيرًا انتهت الأزمة، لكن يبقي السؤال: وماذا بعد؟ في ظهر اليوم التالي كان المؤتمر الصحفي لإعلان القرار والإجابة عن السؤال، كيف السبيل إلي تفعيل الحوار مع الحكومة ومجلس النواب؟ جلسنا علي منصة المؤتمر الصحفي، النواب ياسين عبدالصبور ومحمد سليم، وعمرو أبو اليزيد، ويوسف عبدالدايم وأنا، ورموز اللجنة التنسيقية وبعض من عمد ورموز النوبة، كان حديثنا مركزًا علي ضرورة البحث الجدي عن حلول لهذه المشكلة، وأولها قضية أرض «فور قندي» وتفعيل المادة 236 من الدستور. خلال هذا الأسبوع سوف يجري اللقاء برئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء مع وفد من أبناء النوبة واللجنة التنسيقية، الهدف هو المكاشفة والمصارحة والإجابة عن التساؤلات المطروحة عن المستقبل. نعم إن المادة 236 لا تتحدث عن مشكلة النوبة وحدها فالمشكلات متعددة، ولكن خصوصية هذه المشكلة، تأتي من قدمها، منذ أكثر من 118 عامًا والنوبيون يواجهون الهجرة ولهيبها، أربع هجرات قد تمت منذ عام 1902 وحتي عام 1964 منذ مشروع خزان أسوان، وتعليته المرة تلو المرة، وحتي مشروع السد العالي، الذي تسبب في الهجرة الكبري من القري النوبية الأربع والأربعين والتي كانت تقطن علي مساحة لا تقل عن 350 كيلو مترًا. حلم العودة بالنسبة للنوبي، هو الحياة، هو التاريخ، هنا دفن الأجداد، وهنا أرض الذهب والكنوز، وهنا عاشت أقدم الحضارات الإنسانية، حضارة النوبة القديمة. مطالب النوبيين واحدة، قد تختلف الوسائل، قد تتعدد الأسماء، ولكن يبقي حلم «النوبي» في العودة إلي الجنوب قاسمًا مشتركًا بين الجميع، إنه الحلم الذي لا يزال يطل من «العيون»، فهل نشهد بدايات جديدة لتحقيق هذا الحلم في عهد الرئيس السيسي؟! أتمني ذلك!!