لم أكن رأيته من قبل، كانت زوجته الزميلة سامية تحكى عنه كثيرًا، تبلغنى سلاماته، ما أن تقابلنى حتى تبادرنى «بلدياتك بيسلم عليك»، كان هو العميد عادل رجائى، قائد الفرقة التاسعة )مدرعات(، منذ أكثر من عامين طلبت منى الشئون المعنوية بالقوات المسلحة، إلقاء محاضرة فى الفرقة التاسعة بدهشور، ذهبت إلى هناك فى وقت مبكر من الصباح، استقبلنى قائد الفرقة بوجه بشوش، وحفاوة غير عادية، كلمات الترحيب لا تتوقف، مضينا سريعا حيث كان ينتظرنا حشد من الضباط والجنود، مازلت أتذكر كلماته عن الوطن، عن التضحية والفداء، عن العزيمة والإصرار، عن الإيمان، عن الرجال الذين يتوقون إلى الشهادة. بعد أكثر من ساعتين، عدت إلى منزلى، وفى مساء ذات الليلة جاءنى صوت الزميلة سامية زين العابدين، الكاتبة والصحفية.. قالت: انت طبعا كنت اليوم تحاضر فى الفرقة التاسعة ( مدرعات ) صمت لبعض الوقت، قلت لها عرفتى منين؟ قالت: ألا تعرف أن العميد عادل قائد الفرقة هو زوجى؟! قلت لها بعفوية: معقولة؟ لم يقل لى شيئا. قالت: يعنى عاوزه يقول لك ايه، أنا زوج سامية زين العابدين، عادل صعيدى، مينفعش يقول لك كده.. إذن هذا هو القائد الانسان، الذى أعرفه من خلال الرسائل التى يبعث لى بها عبر زميلتنا سامية، قلت لها: لقد شاهدت اليوم نموذجا مثاليًا، وقائدا واعيا، صاحب رؤية، يمتلك إيمانا بكل كلمة كان يتفوه بها، هكذا انطباعى عنه ». وصباح أول أمس، كان أخى محمود يبلغنى الخبر الحزين، لقد اغتال الإرهابيون العميد عادل رجائى، زوج زميلتنا سامية زين العابدين، كان الخبر صادمًا، سألته: هل أنت متأكد؟ قال لى: لقد حدثتنى سامية منذ قليل وهى فى حالة انهيار كامل، وأنا فى طريقى إليها فى مستشفى الجلاء، حيث يرقد جثمان زوجها. إذن فعلها المجرمون، قتلوا الرجل أمام منزله وأصابوا آخرين، واستشهد سائقه، انتظروه فى السادسة والنصف صباحًا، كانوا يعرفون موعده اليومى، كانوا ثلاثة إرهابيين، ضمن فصيل متآمر جديد أطلق على نفسه «لواء الثورة». كانت الساعات ثقيلة، شيع الجثمان بحضور القائد العام ورئيس الأركان والقادة والضباط والجنود وجمهور كبير من الأصدقاء والأهل والأحباب لفوه بعلم مصر، دقت الموسيقى الجنائزية، تودع شهيدا جديدًا وفارسًا نبيلا.. منذ ساعات قليلة كنت أتابع حادث سجن المستقبل فى الاسماعيلية اسأل عن الخيانة، عن هؤلاء الذين مكنوا الإرهابيين من الهروب من السجن، بعد أن سلموهم أسلحة، أترى ما هو الثمن، وكيف وقع الهروب الكبير؟ وكيف استشهد الرائد محمد الحسينى والمواطن أحمد رزق بلا ذنب ولا جريرة؟ دماء هنا، ودماء هناك، شباب في عمر الزهور يستشهدون على أرض سيناء، إنها المؤامرة التى أرادوا منها، البحث عن موطئ قدم، لتنفيذ السيناريو السورى، هى لعبة الإخوان التى بدأوا يعدون لها، حتى قبل وصولهم إلى السلطة، أرادوا أن يقتطعوا سيناء من أرض الوطن، ويقدموها هدية لأمريكا وإسرائيل لإقامة دولة «غزة الكبرى» على أراضيها، ليفتحوا بذلك الطريق أمام إسرائيل لوأد الحلم الفلسطينى والتهام ما تبقي من الأرض وحل القضية على حساب مصر الشعب والأرض. دفعوا بالارهابيين من كل حدب وصوب، أخرجوهم من السجون، مولوهم، دربوهم، استعدادًا للحظة الفاصلة، وجاءت اللحظة فى 3 يوليو، فبدأ المخطط واشتعلت المنطقة، بحثا عن انتصار، يبنى عليه.. كان جيشنا العظيم، وشرطتنا الباسلة بالمرصاد، واجهوا، أجهضوا المخطط، دفعوا الآلاف من الشهداء والجرحى على مدى أكثر من ثلاثة أعوام مضت، لكنهم صمدوا وقاوموا ولم يتراجعوا. كانت سامية زين العابدين تلهث وراء الفضائيات، تعبر عن غضبها من الخونة الذين يشككون فى جيشنا وشرطتنا، تصرخ بكل ما أوتيت من قوة، لقد عرفتها عن قرب أثناء معركتنا مع الإخوان، وكيف كانت تحشد الوطنيين فى الميادين، تهتف ضد محمد مرسى وجماعته، خلال فترة حكمة، كانت تحدثنى عن تهديدات تأتى إليها، لكنها لم تكن تجزع أو تخاف، كانت تقاتل فى الميدان، لا تعرف اليأس أو الاحباط، تنطلق منها ثورية عفوية، مغموسة بتراب هذا الوطن.. منذ اليوم الأول، أطلت سامية من الفضائيات، تمنحنا القوة بكلماتها وصمودها، وعنادها، حتى بعد أن استشهد زوجها، أغلى شىء فى حياتها، تقول سامية: كنت أدعوا أمام الكعبة أن يرزقنا الله بوريث يملأ علينا حياتنا، لكنه كان يدعو الله وهو يرتدى ملابس الاحرام «اللهم امنحنى الشهادة»!! سامية تكتم دموعها، تدوس على مشاعرها، فالوطن أبقى من الزوج والابن والحبيب، تعرف سامية أن مصر تستحق أكثر من أرواحنا، تستحق كل شىء فى حياتنا، إنها تعبر عن الحالة العامة للمصريين، انظروا كيف أبكت أم الشهيد اسلام رئيس الدولة ومن خلفه ملايين المصريين، تأملوا كلماتها، شجاعتها، قوتها، رباطة جأشها، تأملوا حديثها عن مصر الوطن والحياة، ابنى غالى علىّ، لكن موش حيغلى على مصر، إنها ليست وحدها، نحن شعب يجيد التضحيات، يتحمل تبعاتها، يعرف أن الأمن والاستقرار وحرية القرار، لها ثمن قطعا سيدفع من دم الأبناء، وهم راضون فى كل الأحوال.. عندما تستمع إلى أسر الشهداء، وتفتح شاشات بعض الفضائيات، تقول فى حسرة: شتان بين هؤلاء وهؤلاء، ادخل على مواقع التواصل الاجتماعى، لجان إلكترونية مسعورة ، وتعليقات سخيفة ومريبة، كأنك فى عالم غير العالم، ودنيا غير الدنيا.. الرهان على وعى الشعب هو الخيار الصحيح، هذا الشعب الذى عرف الحقيقة بوجهها الصحيح، أحدث فرزا بين الناس فعرف من معه، ومن ضده، تأمل المشهد من حوله، ففضل الحفاظ على الدولة، ورفض خيار الفوضى، وتحمل تبعات الاصلاح مهما كانت مرارتها، المصريون حافظوا على دولتهم منذ تأسيس أول دولة فى فجر التاريخ منذ نحو خمسة آلاف سنة قبل الميلاد. نعم لا خوف على الشعب ولكن ماذا فعلت النخبة، حروب وصراعات، تصفية حسابات، سعى متعمد لتقسيم الصف الوطنى إلى شيع وأتباع، استغلال للنفوذ وحرب على الشرفاء يسأل الناس دوما: إلى متى الصمت على انفلات الاعلام؟ إلى متى تغيب العدالة الناجزة، فيضيع الحق بمضى الزمن ومرور الأيام، إلى متى وإلى متى وإلى متى؟! الأسئلة كثيرة، والاجابات منقوصة، وهنا الطامة الكبرى كأن البعض يتعمد بث اليأس فى النفوس، ودفع الناس إلى مزيد من الاحباط، الناس تسأل عن الإرادة السياسية فى المواجهة، عبدالناصر القائد الذى هزم فى 67، هو نفسه القائد الذى طالبت الجماهير فى 9، 10 يونيو باستمراره، وتقبلت كل اجراءات التقشف التى فرضها عن طيب خاطر، هل تأملوا المشهد، هل درسوا التجربة؟ هل حسموا كما حسم هو؟ أعرف أن البعض سيقول إن البيئة مختلفة والمجتمع الدولى أصبح رهينة فى يد قوة واحدة، لكن أردوغان فعلها، خرج على كل القوانين وأطاح بالدستور، وثبت أركان دولته ولو إلى حين، ولم يستطع أحدا أن يقول له شيئا، أو يبدي اعتراضا على فعلته؟! إن السؤال هو: لماذا نؤجل قضايانا؟ أين هى القضية 250؟ متى يحسم أمر قضية التمويل الأجنبى رقم )173(؟ متى يطاح الرؤوس التى أينعت؟، الأسئلة كثيرة، وحان وقت الحسم. إن استشهاد قيادة عسكرية بوزن العميد ( عادل رجائى ) يمثل نقطة تحول فى مسار العمليات الإرهابية، إن ما جرى فى سجن المستقبل بالاسماعيلية يمثل عودة لسياسة اقتحام السجون وتهريب السجناء رغم كل ما جرى، إن استخدام السيارات المفخخة يكشف عن تطور نوعى فى أساليب الإرهاب والإرهابيين، ومثل هذه الأحداث وغيرها توجب على السلطة مواجهتها بكل حسم وقوة.. إن الفترة المقبلة حاسمة فى تاريخ هذا البلد، صحيح أن مصر ستبقى مرفوعة الهامة بشعبها وجيشها، وشرطتها وقضائها، ولكن تفعيل الإرادة السياسية من شأنه أن يختصر المسافات ويجهز على المؤامرة ويضع حدا لمخططات الفوضى التى يراد لها أن تطل برأسها من جديد. لدينا أزمة ولكن المهم هو فن إدارة الأزمة، وهو أمر يستوجب الاستعانة بأصحاب الخبرة وليس فقط أصحاب الثقة من هنا تكون البداية، ومن هنا يكون الانطلاق نحو مزيد من الأمن والاستقرار والنهوض.. الشهيد العميد عادل رجائى، ليس هو الأول ولن يكون الأخير، ولكن المهم ألا تذهب دماؤه سدى، وألا تبقى روحه هائمة تطالبنا بالثأر والانتقام لزمن طويل، ولتكن البداية من مجلس النواب، بتعديل قانون الاجراءات الجنائية.