لقد كُتب عن هيكل الأسطورة، الكثير، فى حياته، وسيكتب عنه الكثير، بعد مماته، فمنهم من خذله، ومنهم من أنصفه من خصومه، بإحقاق الحق، وتقديم الفضائل، وإثبات الوقائع، وتدوين الحقائق لا تدبيج المدائح. هيكل ظل مغرما بالصحافة منذ نعومة أظفاره، وحتى آخر يوم غادر الدنيا، فكان هيكل ابن التسعينيات من عمره، أكثر ولعا بمهنته، ومهمته، من هيكل ابن الثامنة عشرة من عمره، وقت أن رأى اسمه للمرة الأولى، مكتوبا، بل مطبوعا، بل محفورا، على صفحات الجرائد، من لحظتها، ظلت صاحبة الجلالة، ولعه الدائم. ففى هذه الحلقات، من سلسلة مقالات، «هيكل الأسطورة بين الصحافة والسياسة»، استطعت قدر الإمكان، مع الاعتراف بالتقصير، فى هذه السلسلة، لأن هيكل أكبر من أى سلسلة، أو مقالات، أو موسوعات، أو تحليلات، أو كتب، وتقارير، وغيرها، فشخصى كمستشار بالسلك الدبلوماسي، أرى نفسى أمام هيكل، كالطفل الأصم، فمن يستطيع وصف الهرم، بما فيه من عظم، إلا الهرم، وهيكل بجلالة قدره، «هرم رابع»، لا يستطيع الكتابة عنه إلا هرم مثله، ولا يوجد مثل هذا الهرم لوصفه، فغامرت بطفولتى أمامه، وعجزى أمام تاريخه، بهذه التجربة، التى أتمنى أن تؤدى جزءا بسيطا من الغرض. استطعت بعجزى فى هذه الحلقات، إعادة النظر فى وجوه هيكل، الكثيرة، والفاضلة، والمتعددة بما يملكه هذا الرجل من ذكاء حاد، وفراسة، وحنكة، ليس لها نظير، فهو الصحافى، والكاتب، والمفكر، والمؤرخ، والسياسي، والدبلوماسي، الذى صاحب الحكماء، والزعماء، والرؤساء، والأمراء، والملوك، الشاهد الوحيد، على عصور التحولات، وعالم الحروب الباردة، والحكيم الجهبذ، الذى تنبأ بالربيع العربى قبل مجيئه. «الأسطورة، محمد حسنين هيكل»، ظاهرة من الظواهر التاريخية الكبرى، فلتة من فلتات الدنيا، لا تتكرر إلا بمرور الزمن، كما كان حضرة صاحب الفضيلة، مولانا «الإمام محمد متولى الشعراوي»، فلتة فى تخصصه كعلامة دينية، لا تتكرر إلا على رأس كل مائة عام، مع الاختلاف فى المجالات، والتخصصات، هيكل بتاريخه الصحفي، والسياسي، والشعراوي، بتاريخه اللغوي، والديني. فمثلهما، لايعاد ظهورهما، ومن المستحيل إعادة إنتاجهما، إلا بإعادة التاريخ. وهيكل تاريخ صحفي، لا ينتج إلا بإنتاج الظروف نفسها، فهو متعدد الأفكار، والأدوار، ولا شك أنه أداها باقتدار. هيكل فيلم سينمائى طويل جدا، قام فيه بأدوار كثيرة، وكلها أدوار البطولة المطلقة، فرغم اقترابه من السلطة، اقتراب التوأم المتلاصق، إلا أنه حافظ على قدر كبير، من استقلاليته، واستمراريته، كما حافظ على اسمه، وسمعته، وتاريخه، وتأريخه، فلم تشبه شائبة، ولم يشوه اسمه، ولم تلوث سمعته، ولم يتهم فى قضية، فكان نظيف اليد، كما كان نظيف العقل، والقلب، والفكر، اندمج فى اللعبة السياسية، لكنه حافظ على صفته الدائمة، «الجورنالجي»، طيلة حياته، وحتى وافته المنية، فهو رجل كرس حياته للصحافة، والسياسة، وله فيهما معارك، ومآرب، حتى صار هيكل جزءا من التاريخ. حاول كثيرون تقليد هيكل، ليصبحوا مثله، فمن باب الصحافة، دلف كثيرون إلى لعبة السياسة، ومن العالم السياسي، ظل كثيرون، يتوقون، ويحلمون، إلى درجة التأثير، التى يملكها أصحاب القلم، «لا سيما هيكل»، بعض هؤلاء، سلك الطريق من السياسة إلى الصحافة، وبعضهم سلك الطريق بالاتجاه المعاكس. الدليل على ما سبق ذكره، فى التحولات التاريخية، فى الاتجاه المعاكس، من عالم الصحافة، إلى عالم السياسة، والعكس، هو كالتالي: الزعيم الخالد، جمال عبد الناصر، عندما قام بزيارة تاريخية، للمرة الأولى، لمؤسسة «الأهرام»، أثناء افتتاح المبنى الجديد لها، وأثناء دخوله لغرفة رئيس مجلس الإدارة، ورئيس التحرير، جلس مكان هيكل فى مكتبه، ثم قال له مداعبا: «هذا هو العمل الوحيد، الذى كنت أرغب القيام به»، وكان الزعيم الثانى الخالد أيضا، محمد أنور السادات، الوحيد الذى صاحب عبد الناصر، فى زيارته إلى «الأهرام»، فلفت نظر السادات، الكرسى الذى جلس عليه عبد الناصر، وهو كرسى هيكل، فقال السادات، لعبد الناصر، مشيرا إلى مقعده: «شايف يا ريس: هيكل قاعد على كرسى شكله إيه؟». فكان لدى الزعيمين، الخالدين، الراحلين، «عبد الناصر، والسادات» غرام، وولع بالصحافة، فهذا السادات، شغل منصب رئيس تحرير الأهرام، وهذا عبد الناصر، وضع اسمه على أول صحيفة تصدر فى عهد الثورة، متحدثة باسمها، كصاحب امتياز لجريدة «الجمهورية»، وعلى الاتجاه المعاكس، اتجه محمد أنور السادات، إلى العمل صحافيا قديرا، محترفا فى مؤسسة «دار الهلال»، فكانت بداية مشواره، قبل أن يصل إلى أعلى منصب صحفى فى مصر، وهو رئيس تحرير الأهرام، حيث كانت السياسة متوقفة فقط على إعطائه «الشهرة، والتأثير»، وهما مطلوبان، وانتهى الحال بالصحفى محمد أنور السادات، رئيسا لمصر، ثم سعى بعدها، ومن موقع القيادة السياسية، رئيس الدولة المصرية، من عالم السياسة، إلى عالم الصحافة، فقام السادات، بتأسيس جريدة، ومجلة، أسبوعيتين، تحت رعايته مباشرة، الأولى هى جريدة، «مايو»، التى كان يطمح إلى أن تكون جريدة «مايو»، أفضل من «أهرام هيكل»، والثانية هى مجلة «أكتوبر»، حيث كان يأمل، أن تكون المجلة الأولى فى الوطن العربي. المتحدث الرسمى باسم النادى الدبلوماسى الدولي Diplomatic Counselor Sameh Almashad