شمس يوليو الغنية النقية مسلطة فوق رءوسنا.. كأننا في يوم الحشر.. الذي اسمه الآن ميدان التحرير ساعة الظهيرة.. جموع من كل حدب وصوب علي طول خريطة مصر تملأ المكان.. عيدان بشرية متراصة متلاصقة لا تعرف كيف دخلت وكيف تجمعت.. انها جمعة القصاص.. القصاص من من؟ سألت أول إنسان اصطدم بي وسط كتل اللحم والشحم والعرق الغزير والشمس تصب نيرانها فوق الرءوس بلا رحمة وبلا هوادة؟ قال لي دون أن أعرف من هو ومن أين جاء سوي انه يشبه هرقل طولا وعرضا: يعني حضرتك جاي ميدان التحرير في عز نقحة القيالة وموش عارف القصاص من مين؟ يا سيدي من اللي قتلوا عيالنا بالرصاص وبأوامر مباشرة من القيادة السياسية.. الباشا العادلي قعد في مكتبه المكيف بياكل طاجن العكاوي اللي بيحبه وقال للبهوات مساعديه: متهيألي ياولاد.. مافيش حل مع ولاد ال... وقال لفظا فجا غليظا إلا أننا نبيتهم الليلة دي في المقابر.. يعني ايه؟ يعني اضرب ياولد في المليان! أهو ده يا سعادة الباشا اللي لسة ماتشرفتش باسمه أول واحد عاوزين القصاص منه.. نسيت أن أقول لكم إن محدثي هو عبدالعاطي الدماطي عمدة كفرالفتايين تبع ملوي جبلي كما نطقها هو بلسانه الصعيدي! الشمس مازالت تشوي الوجوه والعقول.. لكن الكل في ميدان الحرية الذي أصبح حلم كل مصري في الخلاص يقظ صاح واقف ديدبان.. فهو علي حد تعبير خالد محمد عفيفي الذي جاء من شبين الكوم يحمل شكواه إلي أهل الخلاص في ميدان التحرير: احنا مدرسين وعاوزين حقنا في المساواة بزملائنا.. الميكروفونات من حولنا تزعق في الآذان بأعلي ما فيها من عزم وقوة: يا مجلس أصحي وقوم.. الحال ده موش حيدوم! يا مجلس اصحي وقوم الحال ده موش حيدوم عايزين نقابات حرة دي العيشة بقت مرة.. السفاح.. السفاح.. اعدموه عشان نرتاح.. اسأل حامل الميكروفون: هو مين السفاح ده يا حضرة؟ قال: دول ثلاثة موش واحد.. اسأله: مين يعني؟ قال: ما انت عارفهم والشعب كله عارفهم وأولهم أمهات الشهداء.. العادلي+ الباشا اللي راقد في شرم الشيخ+ ابنه اللي كان عاوز يبقي ريس علينا! {{{ الشمس لا ترحم أحدا.. والزحام يخنق الجميع.. يتساقط من حولي ثلاثة مصابين بضربة شمس.. أفرغ زجاجة مياه معدنية مثلجة كاملة فوق أم رأسي حتي لا الحق بهم.. مازالت الميكروفونات من حولي تزعق.. واللافتات تمر أمام عيني: ماتعبناش ماتعبناش الحرية موش ببلاش! الأمريكان إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة.. إلي من يهمه الأمر: احذروا ثورة الغلابة.. امضاء واحد غلبان جدا جدا. مع كل ظلم وقمع جديد.. يولد ألف ثائر وألف شهيد. لن يسرقوا الثورة التي يقتلوها. ثم لافتة تحمل رسما كاريكاتيريا يصور الثورة مثل السلحفاه التي تمشي ببطيء شديد في سباق غير متكافئ السرعة مع عربة يقودها فلول النظام السابق.. وسائق عربة الفلول يقول لزميله: اطمئن يا اكسلانس.. هي مربوطة واحنا في التمام! {{{ أمسك بيدي شاب قال لي وسط الهجير والحر الخانق: انت لا تعرفني ولكنني أعرفك.. أنا اسمي نبيل قطب انا بقالي سنين بشتغل في شركة بترول زهورات من غير تعيين.. بقالي علي الحال ده عشر سنين.. أجمل ما في الثورة انها تخلي بكرة أحلي وأحلي وأحلي. مازال الحر يخنق الأنفاس والميكروفونات تلعلع.. وأصوات الباعة الجائلين تزاحم الزاعقين في الميكروفونات: البوريك الطازة آخر لزازة+ اروي قلبك يا عشطان بواحد منجة قبل مايشطب الدكان+ خد لعيالك فانلة الثورة.. وماتدفعش دلوقتي.. ادفع بعد ماتنجح الثورة! اصطدمت قدمي بطوبة وكدت اقع من طولي علي الأرض لولا ان أمسكت بي ثلاث فتيات في ريعان شبابهن.. ومنعوني من السقوط.. قالت لي أكبرهن: أنا أم البنات دول عبلة ودينا ونهي.. وأنا اسمي هنا, جئنا إلي هنا نشارك الشباب ثورتهم.. يا عزيزي مافيش تغيير لحد النهاردة.. كل حاجة زي ماهي.. الفساد زي ماهو.. دول بيضحكوا علي الناس.. وبيزوقوا الأخبار للناس في الجرايد والتليفزيون.. لكن اللي شايفينه ان مافيش حاجة جديدة حصلت بعد الثورة! {{{ قبل أن أسقط من طولي بعد صلب ساعتين تحت شمس الهجير في ميدان التحرير قال لي رجل طول بعرض: يا عم خليها علي الله مافيش مستحيل دلوقتي.. بس نخلص من رموز الفساد وكل شيء يتعدل. في النهاية في جملة مفيدة.. خلاصة الصلب تحت شمس يوليو: مصر صحيت خلاص.. ولا خوف بعد اليوم.. وتعظيم سلام لثورة الشجعان.