قد تختلف أو تتفق مع المستشار أحمد الزند، ولكن من يستطيع أن يزايد على وطنيته ومواقفه؟ لن أناقش «السقطة» التى اعتذر عنها على الفور، ولكن هل يمكن بجرة قلم نسيان تاريخ هذا الرجل، وشجاعته، وقيادته لمعركة القضاء في مواجهة الإخوان فى واحدة من أخطر مراحل تاريخ مصر الحديث؟! عرفت المستشار الزند منذ سنوات طوال، لكن علاقتى توثقت به خلال فترة حكم الإخوان، عندما وقف فارسًا فى الميدان، يحمل روحه على كفه، يتحدى رغم الجبروت، يتصدى رغم محاولات الاعتداء عليه وقتله، لا يعرف أنصاف الحلول، ولا يتخلى عما يعتقد أنه صحيح مهما كانت التحديات، ومهما كانت التهديدات. بعد وصول الإخوان للحكم، وتولى محمد مرسى رئاسة الدولة، كانت معركتهم الأولى مع القضاء، دبروا المكيدة، وقرروا عزل النائب العام المستشار عبدالمجيد محمود من منصبه فى 11 أكتوبر 2012، دعا المستشار أحمد الزند إلى اجتماع عاجل للقضاة، ووجه الدعوة إلى عقد جمعية عمومية للقضاة فى اليوم التالى الجمعة )12 أكتوبر(، وكان التهديد واضحًا، لن نسمح بعزل المستشار عبدالمجيد محمود، مهما كانت التحديات، وفى اليوم التالى لم يجد محمد مرسى أمامه من خيار سوى التراجع والخضوع لمطلب القضاة. منذ هذا الوقت تحديدًا قرر الإخوان الإسراع بمعركتهم مع المستشار الزند، سعوا إلى تشويهه، وشن حرب إعلامية وسياسية ضده، لكنه لم يبال، بل أعلن التحدى، وقرر المواجهة حتى آخر مدى. كان الزند يعرف جيدًا أن مخطط الإخوان لن ينتهى عند حد معين، وأن المؤامرة أكبر من قرار يصدر بحق النائب العام أو غيره، كان يدرك أن المعركة هى على الوطن، والمستهدف ليس القضاء وحده، وإنما طمس هوية مصر، وإحلال الجماعة محل الدولة. عندما بدأت الأنباء تتسرب من داخل الجمعية التأسيسية للدستور فى هذا الوقت، عن وجود نوايا حقيقية لتفصيل بعض المواد فى الدستور الجديد الذى كان يجرى إعداده بهدف تقويض استقلال السلطة القضائية، دعا إلى ندوة حاشدة بالنادى النهرى للقضاة، وراح الزند يحشد خبراء القانون ورجال القضاء لمواجهة المؤامرة الإخوانية الجديدة. وبينما كان الحشد فى مواجهة التحركات الإخوانية يجرى على قدم وساق أصدر محمد مرسى فى الثانى والعشرين من نوفمبر 2012 الإعلان الدستورى الانقلابى الذى تضمن عددًا من المواد الخطيرة التى تمكن رئيس الجمهورية من فرض ديكتاتوريته الكاملة على القضاء وعلى شئون البلاد، وعزل النائب العام المستشار عبدالمجيد محمود بطريقة موازية، وشل يد المحكمة الدستورية العليا عن إصدار أحكامها. فى هذا الوقت صدر قرار مرسى بتعيين المستشار طلعت إبراهيم نائبا عاما ليحل محل المستشار عبدالمجيد محمود الذى جرى عزله نهائيا بمقتضى هذه القرارات، فى هذا اليوم مضينا إلى منزل المستشار عبدالمجيد محمود، وقررنا وضع خطة المواجهة، أعددنا البيان، وقرر الزند الدعوة إلى جمعية عمومية للقضاة فى صباح يوم السبت 24 نوفمبر، وقمت بطبع ألف نسخة من البيان وأرسلتها إلى المستشار الزند الذى كلف بعض أعضاء النادى بتوزيعه على الجمعية العمومية فى هذا اليوم نفسه. عندما اتصلت بالمستشار الزند فى هذا الوقت للتنسيق، قال لى إنه وجه الدعوة للمستشار عبدالمجيد محمود، لحضور اجتماع الجمعية العمومية للقضاة، وإنه سيحضر ليلقى كلمة أمام الحشد الكبير الذى لم يشهده النادى من قبل. والتقينا جميعا فى ساحة محكمة النقض، وكانت كلمات الزند تجلجل وتدوى، حتى وصلت إلى عنان السماء، تعلن التحدى والمواجهة،تحشد مصر كلها لمعركة طويلة وفاصلة، إما نكون أو لا نكون، وبعدها جاءت كلمات المستشار عبدالمجيد محمود لتلهب حماس الحاضرين، ولتكشف حقيقة المخطط الإخوانى ضده وضد قضاء مصر، ويومها تساءل: لماذا لم يتقدم الإخوان حتى الآن بطلب فتح قضية «موقعة الجمل»، ملقيا بذلك المسئولية عليهم فى أحداث هذه الموقعة. كانت مقررات الجمعية العمومية للقضاة فى هذا الوقت دليل عمل «ثورى» لكل المصريين جميعًا، تقدم القضاة الصفوف مبكرا ومعهم مجموعة محدودة من النخبة، كان الإعلام غارقًا فى الترويج لمحمد مرسى وجماعته، واستهدفت الحملات قضاة مصر وفى مقدمتهم «الزند» والتحريض ضده. وفى هذا الوقت بدأ الترصد والتحرش بالمستشار الزند، حاولوا اقتحام اجتماع الجمعية العمومية، واحتشدت فلول الإخوان لمحاصرة محكمة النقض، بل إنهم حاولوا اغتيال «الزند» شخصيًا. وزحفت عناصر الإخوان وتابعوهم إلى مبنى المحكمة الدستورية العليا لمنع قضاتها من الانعقاد، وراح المستشار الزند يتواصل مع قضاة العالم لرفض المؤامرة على المحكمة الدستورية فأصدرت 64 محكمة دولية فى هذا الوقت بيانا شديد اللهجة أعلن عن التضامن مع المحكمة الدستورية فى رفض منعها من أداء عملها، بل إن هذا المحاكم عطلت عملها لمدة يوم واحد احتجاجًا على حصار المحكمة الدستورية الذى استمر 18 يومًا. وكان لقضاة مصر موقفهم من أحداث الاتحادية، ووقف نادى القضاة بكل قوة خلف المستشارين مصطفي خاطر وإبراهيم صالح وعدد آخر من رجال النيابة العامة الذين رفضوا تعليمات النائب العام طلعت عبدالله بتلفيق قضية أحداث الاتحادية لعدد من المواطنين الذين تم القبض عليهم وتعرضوا للتعذيب على يد جماعة الإخوان، ودعا الزند إلى احتشاد رجال القضاة والنيابة العامة تضامنا مع المستشارين مصطفى خاطر وإبراهيم صالح اللذين رفضا قرار نقلهما وقررا التقدم باستقالتيهما من النيابة العامة، ويومها هدد رجال النيابة بتعليق العمل فى جميع النيابات، وكانوا قد بدأوا قبلها موجة من الاستقالات ضمت عددًا من المحامين العامين ورؤساء النيابات وأعضائها فى العديد من المحافظات والمحاكم المختلفة. وفى هذا اليوم أيضا حاول الإخوان التحرش بأعضاء النيابة وراحوا يوجهون لهم الإساءات من خلال الهتافات المستفزة، لكن أعضاء النيابة والقضاة ردوا عليهم بهتاف «بلادى بلادى.. لك حبى وفؤادى».. في نفس هذا اليوم كان هناك عدد من شباب الإخوان وتابعيهم ينتظرون المستشار أحمد الزند أمام نادى القضاة وحاولوا الاعتداء عليه وقتله، عندما خرج من ساحة النادى فى التاسعة مساء، ولكن القضاة تمكنوا من القبض على بعضهم.. فى اليوم التالى ذهبت إلى نادى القضاة فى العجوزة فوجدت تجمهرًا كبيرًا من القضاة، وبعثوا من هناك برسالة للرأي العام تقول: «لم تعد هناك حرمة لأي شيء، وإن الاعتداء اللفظي، والمادي ضد القضاة يتصاعد ولا يمكن السكوت عليه، وإنهم يعرفون جيدًا القوي التي تحرك الأحداث وتتجاوز كل الحدود». ظل قضاة مصر في حالة استنفار، رفضوا دستور الإخوان، تمسكوا باستقلال السلطة القضائية دون تراجع، تصاعدت الحملة ضد المستشار الزند، وتعددت البلاغات ضده بتحريض من جماعة الإخوان، لكنه لم يبال، كانت الاتصالات بيننا في هذا الوقت لا تتوقف، وكان الزند يقول لي دومًا: «لن نسكت إلا بسقوط هؤلاء المتآمرين علي مصر وعلي الدولة المصرية». كان الزند ومعه حشود القضاة يراهنون علي انتفاضة الشعب المصري في مواجهة حكم جماعة الإخوان، وكان لديه اعتقاد لا يتزعزع بأن جيش مصر العظيم لن يتواني عن دعم الشعب في ثورته علي الجماعة الإرهابية، تعددت حلقات النضال، تحول نادي القضاة إلي خلية «ثورية» تقاوم، تتحدي، تصر علي استمرار المسيرة، مهما كانت التحديات والمؤامرات التي تحاك ضدهم. في أبريل 2013 كان مكتب الإرشاد قد اتخذ قرارًا بعزل 3500 من كبار القضاة في مصر، من خلال السعي لإصدار قانون يقضي بعزل كل من بلغ الخامسة والستين من العمر، يومها ثار القضاة وأدركوا أن المؤامرة وصلت إلي حد لا يمكن السكوت عليه، لأنهم كانوا يعرفون أن الهدف هو إحلال عناصر إخوانية من المحامين وخريجي الحقوق محل هؤلاء القضاة، تمهيدًا لإسقاط هذه المؤسسة العريقة. قاد أحمد الزند نضالاً بلا هوادة دفاعًا عن زملائه وعقد مجلس إدارة نادي القضاة اجتماعًا هامًا في هذا الوقت وأصدر في نهايته بيانًا تحدي فيه محمد مرسي وجماعته وقال المستشار الزند يومها: «لن نسمح أبدًا بتقويض سلطة القضاء وتصفية رجاله لحسابات سياسية تهدف إلي «أخونة القضاء»!! وفي العشرين من يونيو، وقبل اندلاع الثورة بعشرة أيام، عقد الزند مؤتمرًا عالميًا للدفاع عن قضاة مصر، شارك فيه رئيس الاتحاد الدولي للقضاة، ومن هذا الاجتماع راح الزند يعلن مجددًا تحديه لمحمد مرسي وجماعة الإخوان وكانت كلمته الشهيرة «القضاة لحمهم مر يا مرسي» تدوي في كل انحاء الوطن، لتشعل غضب الجماهير وتمهد الطريق لثورة الشعب ضد حكم الإخوان. وكان للقضاة وقفتهم القوية في مواجهة خطاب محمد مرسي يوم 26 يونيو والذي اتهم فيه القضاة بتزوير الانتخابات البرلمانية في عام 2005، وخص بالاسم المستشار علي النمر، وفي هذا الوقت أعلن الزند وأعضاء مجلس إدارة نادي القضاة عن تضامنهم مع المستشار علي النمر ورفضهم لخطاب مرسي وفضحه، ومطالبة الشعب المصري بالتصدي لهذا الحاكم الذي تجاوز كل المحرمات وأهان كل السلطات. وعندما اندلعت ثورة الثلاثين من يونيو كان القضاة في مقدمة الصفوف، زحفنا من مبني نقابتي المحامين والصحفيين إلي نادي القضاة، فوجدناهم ينتظروننا لنزحف إلي محكمة النقض ومنها إلي التحرير ثم مبني الرئاسة في الاتحادية سيرًا علي الاقدام، نرفع أعلام مصر، ونهتف بسقوط حكم الإخوان. وعندما حصل المستشار عبدالمجيد محمود علي الحكم النهائي بعودته لمنصبه من محكمة النقض، التقينا جميعًا في مبني نادي القضاة، وكان في مقدمتنا المستشار الزند والمستشار عبدالمجيد محمود، ويومها عقد الزند مؤتمرًا صحفيًا عالميا، طالب فيه الجيش بعزل مرسي وعصابته والانضمام إلي صفوف الشعب الذي أصدر قراره بإسقاط حكم الخونة. كانت مفردات الزند واضحة، ومواقفه لا تقبل التردد، لقد أعلنها منذ اليوم الأول: لا تراجع ولا استسلام، حذر منذ البداية من حكم «الفاشية الدينية» اكتسب تعاطفًا جماهيريًا كبيرًا، وكان يقول دائمًا: «حتي لو قتلوني دمي لن يكون غاليًا علي مصر». ظل حتي اليوم الأخير، صامدًا، مقاتلاً شرسًا بلا هوادة، لم تكن له حسابات، ولا توازنات، حساباته فقط كانت حسابات الوطن، ارتفع اسمه عاليًا، كان الناس يحلو لهم أن يسموه «أسد القضاة» لأنه كان أسدًا في وقت كان بعض من يتطاولون عليه كالفئران داخل الجحور، وبعضهم كان يسير في ركب الإخوان، أو يستخدم مفردات لا تسمن ولا تغني من جوع». لم يكن الزند يسعي إلي منصب أو إلي جاه، كان فقط يؤدي رسالة، وقد أداها علي الوجه الأكمل، وعندما أخطأ واعتذر علي الفور، لم يغفر له أحد ذلك، بل راحوا يذبحونه من الوريد إلي الوريد، ويسخفون من دوره الذي لم يطلب له ثمنًا ولا جزاء. وحتي عندما سافر إلي الخارج للمشاركة في مناسبة اجتماعية لم يرحموه، بل راحوا يهيلون الثري علي رجل، بالأمس القريب، كانوا يحملونه علي الاكتاف، وكأنهم يقولون للجميع: «إن حسابات التصفية بدأت، وإن أحمد الزند لن يكون الأول، ولن يكون الأخير، بل هي رسالة بأن حلف الإخوان وتابعيهم قد بدأوا الحرب الخفية لتصفية كل من يلتفون حول الرئيس ويتصدون لمخططاتهم ومؤامراتهم ضد الوطن». ونسي هؤلاء، أو تناسوا، أن رجالاً من عينة الزند وغيره لا يعرفون الطريق إلي الاستسلام، ولا يكفرون بالوطن لمجرد منصب أو سلطة، بل إن الزند نفسه طلب من نادي القضاة أن يتوقفوا عن أي تصعيد، لأن مصر أكبر من الافراد، ولأن الهدف في هذا الوقت هو إسقاط المؤامرة التي تستهدف الوطن وقيادته، وأنه أبدًا لم ينتظر مكافأة نهاية «الخدمة»، فالنضال الوطني فرض عين علي الجميع، والاستشهاد في سبيل الوطن هو اسمي المعاني، ولنا في شهداء مصر وسيناء قدوة وعظة وعبرة. كان الزند يقول دائمًا: «ليس هناك أحد منا له جميل علي مصر، بل إن جميل مصر سيبقي في أعناقنا جميعًا حتي النفس الأخير في حياتنا».