لكل زمان رجاله، ولكل عصر أبطاله، هم المخلصون، المدافعون عن الوطن، المستعدون للتضحية بأغلي ما يملكون. مهما تكالبت قوي الشر، أو اشتدت هجماتها، وهؤلاء هم الذين يخلدهم التاريخ، ويبقون دومًا نبراسًا للأجيال القادمة. تعلمنا في بيوتنا ومدارسنا صفات البطل، وأخلاقياته، أدركنا الفرق بين الغث والسمين، وعرفنا ماذا تعني الخيانة، والخروج علي الثوابت، والمتاجرة بالشعارات، لحسابات أخري، بعيدة عن مضمونها. توارتنا هذه العقيدة، وسطرناها في عقولنا، وأصبحت ميثاقًا أخلاقيًا يخلد في أذهاننا، وظل العقل الجمعي هو الحارس دائمًا علي هذا الموروث، وبات كالسيف البتار يصدر حكمه في مواجهة كل من يتجرأ علي هذه الثوابت أو يسعي إلي مخالفتها. لقد مر عصر من الزمان، كان الحديث فيه عن تفكير البعض لزيارة الكيان الصهيوني أو مقابلة أي من المسئولين الصهاينة، كفيلاً بأن يحقر من شأن هذا الشخص، ويصدر حكمًا شعبيًا بالخيانة عليه، غير أن السنوات القليلة الماضية انتجت نوعية مختلفة من السلوك، ومفهومًا مناقضًا للعقيدة الوطنية. لقد وصلت الجرأة بأحدهم إلي معايرة الدولة، والشعب، واتهام المصريين بمرض «الانفصام في الشخصية» لأن حكومته وقعت في عام 79، اتفاقية للتسوية مع العدو الصهيوني، لكن شعبها ظل علي رفضه للتطبيع. وأصبح الحديث عن مقابلة السفير «الإسرائيلي» مجرد فعل عادي، والتفاوض معه، مهارة واجبة، بل وزيارته الكيان ومقابلة رئيس حكومته، هدفه دعم العلاقات وتطويرها، كما أن التفريط في الحقوق المصرية وحقوق الشهداء، أمر بات طبيعيًا، دونما حساب أو عقاب رادع. بعد أزمة «نائب التطبيع» حدث فرز في النخبة )المثقفين والإعلاميين والصحفيين(، راح البعض يحدثنا عن الإقصاء، أو الترصد، أو إشعال النيران في ملف العلاقات، وتطوع آخرون للحديث عن أخطاء لائحية ودستورية، وبدا كل منهم يبحث عن وسيلة للنفاذ إلي الثوابت ومحاولة بعثرتها بصيغ وأساليب تبدو أنها بريئة، أو تنطلق من الحرص علي مفاهيم قانونية أو مواد دستورية خاطئة، غير أن عامة الناس كان لها رأي آخر مناقض، ولديها وعي يسبق هذه النخبة بكثير. ولم يكد يفق الناس من هول الفعلة الأولي، حتي فوجئوا بتصريح للسفير الإسرائيلي يؤكد أن «العكش» لم يكن هو الوحيد الذي التقاه، وإنما هناك أيضًا نواب آخرون التقاهم بناء علي رغبتهم، صحيح أن السفير الإسرائيلي رفض الافصاح عن أسماء هؤلاء النواب الجدد إلا أن التوقعات تشير إلي أسماء بعينها، قطعًا كانت بين الرافضين لاسقاط عضوية «العكش». وحتي لو تم الافصاح عن أسماء هؤلاء الذين لا يملك أحد أدلة اتهامهم، فسوف تفاجأ عزيزي القارئ بسيل من التبريرات من عينة الحديث عن تفعيل الاتفاقيات، وشعارات الماضي التي آن لها أن ترحل، وعن ضرورة الاقرار بالواقع والتعايش معه، وغير ذلك من محاولات البحث عن مفاهيم يظنون أنها تتواءم ولغة المصالح الآنية، ومفاهيم العالم الجديد. وفي مقابل ذلك هناك «الثوار الجدد»، الذين يصدعون رؤوسنا بالحديث عن الحرية وحقوق الإنسان والعدالة والنظام القديم، وغير ذلك من المصطلحات، وهؤلاء يوظفون الشعارات النبيلة، لخدمة أهدافهم وأجنداتهم وأحيانًا لغسل سمعتهم، وإذا ما أمعنت النظر في سيرة بعض هؤلاء لوجدتهم كانوا أدوات لانظمة سابقة، أو فشلة في أعمالهم، أو باحثين عن الشهرة، أو مجرد أناس يسعون إلي ابتزاز المؤسسات ولفت الأنظار إليهم، فربما يكون لهم نصيب في «تورتة» هي ليست موجودة من الأساس. أما الشرفاء الذين يحملون علي عاتقهم مسيرة تحقيق وتفعيل هذه الشعارات منذ زمن طويله، فأصبحت السهام تسدد إليهم، واللعنات تطاردهم علي مواقع التواصل الاجتماعي، وكأن هناك خطة وهي بالتأكيد موجودة تستهدف اغتيال سمعة كافة الرموز الوطنية، حتي يفسح اغتيالهم الطريق إلي «الغوغاء والجهلاء»، الذين يصدرون الأحكام من علي مقصلة الميادين المفتوحة أو عبر لجانهم الإلكترونية. وأصبحت تسمع في هذا الزمان عن أشخاص يقدمون أنفسهم علي أنهم كانوا وراء اسقاط النظام الفلاني، أو تمكنوا من الحشد وقيادة الثورة الفلانية، أو تسمع من هذا الكاتب وذاك الرمز الذي يطلق أحكامًا قاطعة ويتهم الجميع بالخيانة والتقلب السياسي، بينما هو ظل كالقابض علي الجمر، مع أنك لو قلبت الصفحات قليلاً لاُصبت بالصدمة، فلم يكن في السابق سوي رقم بلا فاعلية، في وقت كان التصدي فيه يعني الانتحار!! ومن عجب أن هؤلاء يظنون أن الناس في هذا الزمان فقدت رشدها، وغيبت عقلها، واستسلمت للشائعات والأكاذيب والحقائق المغلوطة، وحتي لو كان ذلك صحيحًا في بعض الأمور، إلا أن الحقائق الدامغة تؤكد أن وعي الناس لا يزال كبيرًا، وأن ادراكها للفرق بين الصادق والكذاب لا يستطيع أحد إنكاره. إن من يراهن علي الزمن، يدرك أن البطولات الزائفة مصيرها إلي زوال، لا حاضر ولا مستقبل، ومن يتأمل المشهد، وتحديدًا منذ الخامس والعشرين من يناير 2011، سيدرك أن هناك حقائق كثيرة تغيرت علي الأرض، وأن رموزًا كبيرة سقطت بعد أن كانت ملء السمع والبصر، وأن هناك وجوهًا بعينها حملها الناس علي الاكتاف في يوم ما، أصبحت لا تخرج من بيتها هذه الأيام، وفرض الناس عليها عزلة خانقة، وأصبح مجرد رؤية وجوهها في الشارع أو علي وسائل الإعلام كفيلاً بإثارة الغضب العارم ضدها في نفوس الجماهير. صحيح أن هذه الوجوه الكالحة، تستغل الأزمات وحالات الاحتقان المجتمعي، محاولة أن تطل علينا من جديد مرددة نفس الشعارات، إلا أن الجماهير لم تعد «تأكل» من هذا الكلام، أو تقبل به، فالتجارب السابقة لا تزال تسكن العقول، حيث جري توظيف هذه الشعارات لهدم المؤسسات واسقاط الدولة، وهو نفس السيناريو الذي شهدته بلاد مثل العراق وسوريا وليبيا وغيرها، حتي أن الناس أصبحت تبدي الندم علي اسقاط مؤسسات الدولة بايديها وتشريد الشعوب، فتحولت شعارات الحرية إلي الذبح علي الهوية، والعدالة الاجتماعية إلي جوع وخراب، وحقوق الإنسان إلي التهجير والفوضي وانتهاك الأعراض، ومؤسسات الدولة إلي ميليشيات متناحرة واستيلاء علي ثروات البلاد بواسطة مجموعة من العصابات، وكل ذلك جري ويجري باسم الثورة والتغيير. لقد نجح هؤلاء علي مدي السنوات الخمس الماضية في أن يخلقوا لأنفسهم ركائز، تحاول تكرار السيناريو بين الحين والآخر، غير أنهم ينسون أو يتناسون أن الانهيارات التي حدثت لدول كانت ملء السمع والبصر، اعطت حصانة للآخرين لحماية دولهم، والذود عنها، وفضح أصحاب هذه البطولات المزيفة. إن من يراهن علي وعي الناس، حتمًا سيكسب الرهان، مهما تعرض لحملات الإقصاء أو التشويه، ذلك أن التاريخ يؤكد لنا دومًا أن «مزبلته» تعج بأمثال هؤلاء الخونة والمتآمرين، أما الوطنيون القابضون علي الجمر، فحتمًا هم المنتصرون.