كانت الساعة قد اقتربت نحو الثالثة ظهرًا، أسابق الزمن، كى أكون إلى جواره فى لحظة الوداع الأخيرة، لقد أختار الأستاذ مسجد الحسين لينطلق منه إلى «دار العودة»، يتساءل الناس ولماذا، وينسون أنه قضى طفولته هناك، حيث الناس البسطاء وعبق التاريخ. أتأمل الوجوه، أعرف البعض منهم، لكن هؤلاء البسطاء جاءوا ليقولوا للأستاذ «وداعا» أنت لا تعرفنا، لكننا نعرفك، من كلماتك، ومواقفك، ألمح من على بعد أمتار قليلة، نجليه د.على، ود.أحمد، حسن لا يزال غائبا فى لندن، لم يستطع العودة، لكننى كنت أتواصل مع نجله «على» وأعضاء فريق مكتبه، خلال الأيام الأخيرة التى سبقت الرحيل. خرجنا من «صحن» المسجد، مضينا خلف الجثمان أكاد لا أصدق أن «الأستاذ» قد رحل، وأننى لن أرى ابتسامته، وسؤاله التقليدى بمجرد الدخول إليه «ايه أخبارك يا سيدي»!! عدت بالذاكرة سنوات طوال، فى المرحلة الابتدائية عندما كنت صغيرا، كل جمعة أمضى من بلدتنا فى جنوب الصعيد إلى مدينة قنا، كنت أمشى على «قدماى» يوم الجمعة من كل أسبوع، إلى مدينة «قنا» اشترى صحيفة الأهرام لأقرأ مقاله الأسبوعى «بصراحة» كان ثمن الأهرام وقتها «قرش تعريفه»، ليس مهما أن أفهم جوهر المقال، لكن يكفينى أننى كنت أقرأ كلماته بشغف، أشعر بحلاوة العبار، وجمال الحروف التى تكتب بها، وأضع فى سجل حياتى أننى قرأت للأستاذ وأنا دون سن الشباب.. كان حلمى الأبدى، أن التقى «الأستاذ»، رسمت ملامح اللقاء فى ذاكرتى، انتظرت تحقيق الأمل، كبرت وكبر معى الحلم، كنت قد قررت منذ زمن طويل أن أكون «صحيفًا». فى سبتمبر «1981» كنت قد بدأت رسم ملامح «الحلم»، لكننى فجأة قرأت اسمى ضمن 1536 صدر بهم قرار من الرئيس السادات، كنت واحدا منهم، منحونى رقم «167» لمحت اسم الأستاذ «هيكل» ضمن المعتقلين، قلت إذن لقاءنا الأول سيكون فى «الزنزانة». كان يفترض أن يكون لقائى معه فى سجن «ملحق طره»، وعندما همت سيارة الترحيلات انزالى، صممت أن أذهب مرافقا لأخى محمود الذى كان قد جرى توزيعه على سجن «ليمان طره»، خرج الأستاذ فى الدفعة الأولى، وتم الافراج نى فى الدفعة الثانية، وضاعت فرصة كنت أنتظرها.. فى شهر فبراير 1984، كنت قد كلفت من الأستاذ مكرم محمد أحمد، بإجراء تحقيق حول الأزمة التاريخية بين هيكل وأحمد أبو الفتوح، عادت الأحداث تطل برأسها من جديد، كان السؤال، كيف التقى الأستاذ، يومها كان الصديق الكاتب الراحل محمود عوض قد استمع إلى رغبتى، لم يتردد، تحدث معه على الفور، قدمنى إليه، وشعرت يومها أن اللقاء الأول لن يكون اللقاء الأخير.. انطلقت بكلماتى أمامه، كأننى احفظ تاريخه عن ظهر قلب، قرأت كلماته، رحت أحدثه عن كتبه، وأناقشه فيها، كان «الأستاذ» بسيطا، مباشرا، جلست معه لأكثر من ساعة، ومنذ هذا الوقت بدأت علاقتى المباشرة به.. مضت الأيام والأحداث، كان يتابعنى، وكنت التقيه بصفة مستمرة، ربطتنى علاقة انسانية به، وكان القاسم المشترك بيننا هو «الوطن»، كان الأستاذ يتعرض لحملات مسمومة فى هذا الوقت من بعض الكتاب، كان محاصرًا، لكننى كنت جنبا إلى جنب مع آخرين نقف فى «خندقه» ندافع عن تاريخه وعن مواقفه، التى كان يفخر بها دفاعًا عن القيم التى ظلت تسكن بداخله حتى الرمق الأخير.. فى عام 2003، وتحديدًا بعد غزو العراق مباشرة، جرى تحريك احدى قضايا النشر ضدى وضد شقيقى محمود فجأة، كنت من الرافضين للغزو، خرجت على شاشة قناة «الجزيرة» فى هذا الوقت، ودعوت الجماهير للنزول إلى ميدان التحرير لرفض مؤامرة ضرب العراق، وحملتنى الجماهير على الأكتاف فى الميدان، حدثنى يومها السيد صفوت الشريف، لينقل لى غضب الرئيس مبارك، ويحذرنى من تهييج مشاعر الجماهير، مضيت فى طريق غير عابئ، وفجأة وجدت نفسى فى السجن، وكان معى أخى محمود أيضا. فى هذا الوقت كان الأستاذ هيكل يقضى بعض أيام هذا الصيف فى مدينة الإسكندرية، أجرى اتصالات بالدكتور أسامة الباز المستشار السياسى للرئيس، وعاد إلى القاهرة، منذ اليوم الأول ظل يتابع مع أسرتى، وكان مكتبه يكاد يتصل بشكل يومى بالسيدة زوجتى ليسأل عن الأحوال، أحوال الأسرة وأحوالى داخل السجن.. بعد ثلاثة وعشرين يومًا داخل «مزرعة طره» تم الإفراج عنى أنا وشقيقى محمود، بمجرد الخروج من بوابة السجن، فوجئت بالأستاذ هيكل يحدثنى على تليفون المحمول الذى كان برفقتى فى هذا الوقت، يدعونى أنا وأسرتى للاحتفاء فى منزله الريفى بقرية «برقاش» على بعد نحو خمسين كيلو مترا إلى الشمال من القاهرة. فى اليوم المحدد كان الأستاذ وحرمه السيدة «هدايت تيمور» فى انتظارنا، جلسنا سويًا على مائدة الطعام احكى للأستاذ تفاصيل ما جرى خلف الأسوار والأسباب التي دفعت إلي ذلك. قضينا في هذا اليوم عدة ساعات، اختتمها الأستاذ بجولة في المزرعة، يحدثنا عن الأحجار التي جاء بها من أسوان وسيناء والوادي الجديد، وغيرها من المناطق وكان لكل شيء دلالته، حتي وصلنا إلي نهاية المطاف، فأشار إلي ركن جانبي، وقال: «وهنا دار العودة، مقبرتي» انقبض قلبي فجأة، نظرت إلي الأستاذ وقلت له: «ربنا يديك الصحة والعمر الطويل»، قال: «تلك هي النهاية التي ننتظرها جميعا. عدنا إلي منزلنا في وقت متأخر في هذا اليوم، شعرنا بالحميمية، والدفء في علاقتنا بالأستاذ والسيدة حرمه، هكذا هو، يشعرك وكأنك أنت الصديق الوحيد، محل الاهتمام والرعاية، يتواصل معك ويضعك في مرتبة كنت تسعي إليها، أو تحلم بها. يوم أن حدثت لي أزمة صحية، فتحت عيني علي الأستاذ وهو يجلس إلي جواري في سرير المرضي في مستشفي السلام الدولي، في العزاءات كان دائمًا معي، كان إنسانًا بمعني الكلمة، مع كل أصدقائه والمقربين إليه. وكان هيكل الإنسان، هو الوجه الأخير، لهيكل صاحب المواقف والثوابت المبدئية، تاريخ طويل يبدأ مع «الاجيبشيان جازيت» في عام 1942، ولا ينتهي عند قرار عزله من رئاسة مجلس إدارة ورئاسة تحرير الأهرام في الأول من فبراير 1974، لكنه بقي يرفع شعار «لا أعرف لنفسي وطنًا أو قبرًا خارج مصر»، كرر ذلك في الأشهر التي خضع فيها لتحقيقات علي مدي ثلاثة أشهر أمام المدعي الاشتراكي جسد تفاصيلها في كتابه «وقائع تحقيق سياسي أمام المدعي العام الاشتراكي». كانت خلافات الأستاذ مع الحكام قائمة علي أسس مبدئية، كان يفصل بين ما هو شخصي، وما هو موضوعي، ولذلك كان مصممًا علي البقاء في مصر اينما كانت الخلافات، واينما كانت النتائج، وهو ما عبر عنه بقوله «كان خياري الذي اتخذته بكامل حريتي وإرادتي أن أظل في مصر مهما تكن المشاق، وأن أبدي رأيي من داخلها مهما كانت المخاطر، ومع أن كثيرين حاولوا تبصيري بما يمكن أن ينتظرني في مصر وحاولوا اقناعي بالبقاء وحيدًا ولو لبعض الوقت ووصل بعضهم ولهم الفضل إلي حد أنهم قدموا لي عروضًا بمهام وأعمال تشغلني خارجها إلا إنني شكرت ثم اعتذرت لأسباب بينها، أنني لم استطع أن ارتفع إلي مستوي المفكرين الإنسانيين العظام من أمثال «فولتير» صاحب القول المأثور بأن «كل كاتب يجب أن يكون حرًا في اختيار وطنه.. وطنه حيث توجد الحرية»!!، وربما كنت حبيس نظرة قد تبدو ضيقة وهي «أن وطني هو وطني، هو وطني». كان هيكل يعرف تمامًا عبر مسيرته المهنية والتاريخية، أن الوطن هو الوطن، وأن الثوابت هي الثوابت، وأنه لا يستطيع ولا يستهدف سوي هذه العناوين المهمة، التي ظلت هي الحاكم له في كل مواقفه المهنية والسياسية والوطنية علي السواء. قد يختلف البعض مع الأستاذ، وقد يحتد الخلاف إلي درجة التناقض، ولكن من يستطيع أن يزايد علي وطنيته وحرفيته ونزاهته وإنسانيته. مضي الأستاذ إلي عالم «الآخرة» لكنه حتمًا سيبقي بأفكاره ومواقفه وأدائنه المتميز علامة هامة في تاريخنا الحديث، وقيمة نعتز بها، وقامة نفخر بأننا عشنا زمانها، زمن محمد حسنين هيكل.