منذ خمس سنوات مضت، تناسينا عيد الشرطة فى الخامس والعشرين من يناير، تعمد البعض محو هذا اليوم، تجاهلوا ذكريات عظيمة وأسماء خالدة تعج بها صفحات التاريخ، يوم الصمود الاسطورى فى 25 يناير 1952 . كان المحتل يريد فرض شروطه، واستخدام رجال الشرطة فى مواجهة الشعب، ومعاقبة الرافضين والداعمين لحركات المقاومة فى الاسماعيلية والقناة، حاصر مبناهم، وأنذرهم وسعى إلى فرض الاستسلام عليهم، لكنهم رفضوا وتمسكوا فكان الثمن «خمسين شهيدا وثمانين جريحًا»!! لم ينس الناس أسماء «مصطفى رفعت وعبدالمسيح مرقص» وطابور طويل من الأبطال، لكن البعض أراد «شيطنة» هذه الذكرى العظيمة، ومحوها من الوجود، وإهالة الثرى على رجالاتها ومؤسساتها المختلفة.. فى 28 يناير، كانت الكارثة الكبرى، تآمر الإخوان مع مجموعات الفوضويين الذين جرى تدريبهم فى الخارج، لإسقاط الشرطة، ونجحوا بالفعل فى إنهاكها وتشتيت قواها، وفق خطة ممنهجة ومرسومة، استخدمت فيها كل وسائل التحريض، والتكنولوجيا.. ومنذ هذا الوقت توالت المؤامرات على مؤسسات الشرطة المختلفة وأولها «جهاز مباحث أمن الدولة»، وتحولت البلاد إلى ساحة للفوضى، حيث جرى اقتحام المقرات، ومطاردة الضباط والجنود فى الشوارع وشن حملة كراهية عنيفة ضد كل من يعمل بهذا الجهاز الوطنى، بل إن الأمر لم يخل حتى من تعمد الإساءة للأسر والأبناء. لقد أحرق المتآمرون وعصابات البلطجية أكثر من 160 من أقسام الشرطة فى ساعات معدودة، واقتحموا أسوار السجون بمساعدة تنظيم «حماس وحزب الله»، وأطلقوا سراح 23.500 سجين وبلطجي، وتم الاستيلاء عنوة على كميات هائلة من الأسلحة، وكانت الطامة الكبرى هى اقتحام مقار مباحث أمن الدولة والاستيلاء على مستندات الجهاز ومحاولة محو عقله وذاكرته ومطاردة العاملين به والسعى إلى إذلالهم. كان الجيش المصرى فى هذا الوقت يقوم بمهمة مزدوجة، حمل فيها على عاتقه إعادة الأمن والاستقرار، طارد المجرمين الذين تحولوا إلى قُطَّاع طرق، يمارسون الخطف والقتل والاستيلاء على السيارات، فى وقت كانت تحاول فيه الشرطة «لملمة» شتاتها.. وفى 16 مايو 2011، كان المشير حسين طنطاوى يعقد لقاء مع الضباط والجنود من رجال الشرطة فى مقر أكاديميتهم، تحدث عن المؤامرة التى استهدفت الوطن ومؤسساته ووعد بإعادة بناء الجهاز، ليعود إلى ممارسة دوره فى أقرب وقت ممكن.. كانت المهمة ثقيلة، وصعبة، وكانت أخطر حلقاتها، هى تلك المتعلقة بإعادة البناء المعنوى لرجل الشرطة، كانت الحرب التحريضية والإعلامية لا تتوقف، فكل رجال الشرطة قمعيون، وفاسدون إلى آخر هذه الحملات التى راح يطلقها البعض فى برامجهم وصحفهم ومواقع التواصل الاجتماعى على السواء. ورغم حالة الفوضى وفشل اللجان الشعبية فى مهمتها، بل واستغلال البعض لها، إلا أن الشارع المصرى ظل حتى هذا الوقت متحسسًا من عودة الشرطة إلى ممارسة دورها وكان رجل الشرطة مستهدفًا، ومكبلاً، وعاجزًا حتى عن القيام بمهمته. وعندما كنا نتحدث عن أهمية الشرطة، وضرورات عودتها، لتقوم بدورها جنبا إلى جنب مع القوات المسلحة، كانت الأبواق تنطلق فى مواجهتنا، لتوجه لنا السباب، والاتهامات بأننا نريد إعادة انتاج شرطة ما قبل 25يناير.. ورغم أن هذه الحملات ظلت مستمرة لفترة ليست بالقليلة إلا أن رجال الشرطة كانوا يسعون إلى التصدى والقيام بدورهم، وتحمل آلام الإهانات من أجل هذا الوطن وأمنه واستقراره، فنجحوا خلال فترة وجيزة فى أن يعيدوا بعض ما تم هدمه، وأن يفنوا فى أداء عملهم، وأن يدخلوا فى سباق مع الزمن، مراهنين فى ذلك على عامل الوقت، لكشف الحقيقة أمام الناس جميعًا. ورويدًا رويدًا، بدأت الصورة تتضح، وأدرك الناس أن البلاد تعرضت لمؤامرة كبيرة، وأن الهدف لم يكن إصلاحيا، أو تغيير النظام، وإنما كان الهدف اسقاط الدولة والقضاء على مؤسساتها الواحدة تلو الأخرى. وبدأت الصورة الذهنية تتغير فى عقول الناس تجاه مؤسسة الشرطة، وبدأنا نلحظ عودة التعاون والمحبة من جديد، كل استوعب الدرس، وأدرك الناس أن تجاوزات البعض داخل الجهاز لا تعنى فساده، خاصة أن آليات المحاسبة تعمل بحسم وتعاقب دون تردد، ولكن المشكلة ظلت كامنة فى الإعلام ومواقع التواصل. وعندما حكم الإخوان، سعوا إلى شق الصفوف من الداخل والتحريض ضد الجهاز وقادته، وأرادوا إعادة إنتاج ما مضي، بل وفكروا في استبدال جهاز الشرطة بميليشيات واطلقوا عليها «الشرطة المجتمعية»، وتحدثوا عن ضروروات تطهير الجهاز وإعادة هيكلته، ولم يكن كل ذلك يعني سوي القضاء علي وجوده من الأساس. وفي أحداث الاتحادية في الرابع من ديسمبر 2012، وما بعدها، رفضت الشرطة المصرية بقيادة اللواء أحمد جمال الدين وزير الداخلية التصدي للجماهير الثائرة ضد حكم الإخوان، مما أدي إلي عزله من قبلهم فيما بعد، وحتي عندما جاء اللواء محمد إبراهيم وزيرًا للداخلية في أعقاب إعفاء اللواء أحمد جمال الدين ظل بين نارين، ولكنه رفض الاستجابة لمطالب الإخوان ولذلك أثاروا له القلاقل وسعوا إلي عزله. وعندما كنت انتقد الوزير علي عدم حسم موقفه بقوة ضد الإخوان، طلب لقائي في 21 يونية 2013، أي قبل اندلاع الثورة بتسعة أيام، وفي هذا اللقاء حكي لي الوزير عن رد فعل وزراء الإخوان تجاهه في مجلس الوزراء وكيف انتقدوه بشدة عندما قال إن الشرطة ستظل علي الحياد وستحمي المتظاهرين السلميين فلي 30 يونية، ولن تحمي أبدًا لا مقرات الإخوان ولا غيرها من الأحزاب. يومها قال لي الوزير إنه اتفق مع القائد العام «الفريق أول السيسي» في هذا الوقت علي حماية المتظاهرين والتصدي لكل من يحاول الاعتداء عليهم، وقال لي، كيف يمكن أن يقف رجال الشرطة ضد أهلهم، أنا شخصيًا لو اعطيت الأوامر بالتصدي فلن يفعلوها.. وقال لي «إن زوجتي مصرة علي النزول في المظاهرات ولن أمنعها». قبلها بعدة أيام، وتحديدًا يوم 14 يونية 2013، كنت أحضر لقاء عقده مجلس إدارة نادي ضباط الشرطة بقيادة اللواء صلاح زيادة، وكان الاجتماع هدفه، بحث المشاركة في مظاهرات 30 يونية، وبالفعل اتخذ مجلس الإدارة قرارًا بذلك وأوصي بحماية المتظاهرين، بل وهتف العديد من الضباط وأعضاء مجلس الإدارة بسقوط حكم المرشد في الاجتماع. وفي 30 يونية، كان المئات من الضباط والجنود يتظاهرون جنبًا إلي جنب مع جماهير الشعب المصري، بينما كان آخرون يتولون حماية المتظاهرين خوفًا من اعتداء الإخوان عليهم. لقد كان رجال الشرطة شركاء في هذه الثورة، واستطاعوا بالفعل أن يضربوا المثل في الإخلاص والوفاء للشعب وللوطن، أما بعد انتصار الثورة، وإعلان الحرب الإرهابية علي شتي انحاء البلاد، فقد كان رجال الشرطة يقدمون التضحيات جنبًا إلي جنب مع رجال الجيش الشرفاء، ودفعوا لأجل ذلك علي مدي أكثر من عامين ونصف العام آلاف الشهداء والمصابين. لقد تناسي البعض كل هذه التضحيات، وتيتم مئات الأسر، تناسوا أن رجل الشرطة الشهيد لم يحصل حتي ولو علي نصف معاش حصل عليه شهيد أو مصاب في ثورة يناير أو غيرها، وكأن رجال الشرطة لا يحق لهم الحصول علي ذات الحقوق، بل واستكثروا علينا الاحتفال بعيدهم في الخامس والعشرين من يناير. اننا سنحتفل بذكري عيد الشرطة، بالضبط كما نحتفل بعيد ثورة 25 يناير التي نعرفها وليست المؤامرة التي أرادوا تمريرها ضد الوطن ومؤسسات الدولة، من هنا يجب أن تنطلق الدعوة، وردة لكل جندي وضابط علينا أن نقدمها إليهم في 25 يناير. إن الوردة التي تقدمها عزيزي المواطن إلي رجل الشرطة في هذا اليوم ليست عرفانًا بدورهم البطولي في حماية الوطن ودعم استقراره فحسب، بل هي تأكيد علي تلك العلاقة الراسخة بين الشعب وأبنائه من الضباط والجنود. هكذا نطوي صفحة الماضي، ونرد علي المتآمرين، ونؤكد للجميع أن مصر ستبقي قوية برجالها الشرفاء ومؤسساتها الوطنية المخلصة. . كل عام وأنتم بخير .