كثر من الناس تجلس إليهم ساعات وساعات، ولا تصل إلي أكثر مما يريدون هم إطلاعك عليه، وآخرون تبذل جهدًا غير قليل في سبر غور جزء يسير من أعماقهم.. من خريطة وجهه الذي ترتاح إليه وابتسامته البريئة، تصل بأقل مجهود من نظرة عينيه لتري صور كل ما بداخله، كأنك تنظر إلي نبع ماء صاف رائق.. هادئ كنهر النيل.. إن جلست إليه وبصدرك صخور جبال الضيق كلها، لرفعت بعد دقائق من فوق صدرك.. شاعر الشاشة الفضية تعشقه اللغة العربية تسعي فرحة إلي شفتيه لتحتضنها مواهبه.. لسان عربي فصيح يشعرك باعتزازه بعروبته.. ارتاح أكثر العرب إليه.. هو الحكمة تمشي علي قدمين، والحكمة منحة يعطيها الرب لمن يشاء من خلصائه وأحبائه ليحبه الناس، كقول عمتي الصعيدية: 'من حبه ربه حبب فيه خلقه'. الفنان نور الشريف ما اختلف عليه أحد، ولا اختلف معه عاقل.. قارئ أحب الحروف، فأحبته الكلمات، واحتفت بإبداعاته الشاشات في كل أشكال الفنون.. عبر بصدق عن الإنسان وصراعه مع الحياة والعيش.. لم يكن معاديًا يومًا لكلمة إبداع، ولا خاصم مبدعًا في ساحات المحاكم، روائيًا كان أو مخرجًا أو موسيقيًا.. مثل راقٍ للإنسانية والمحبة والعطاء.. رغم شدة ووطأة المرض، لم يبخل بكلمة حلوة للناس.. كان مُصِرًّا علي التفاؤل يبحث في أوراقه عن العمل الفني القادم.. يقاتل به المرض والشدة والألم.. لم تدم كثيرًا أيام التفاؤل.. آثر الرحيل يعتصره فراق آل البيت في الفن والجماهير.. استسلم المقاتل النبيل وقال: 'يكفي هذا القدر' وهو راضٍ تمامًا عن أدائه للرسالة.. ودون ضجة إعلامية عن مرضه كأنه كان يستعجل اللقاء مع خالقه لموعد محدد لا يخلفه 'ولكل أمة أجل، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون'. مصريًا شديد المصرية، أحب تراب هذا البلد.. من التعقيدات السياسية والمؤامرات التي شنها عليه كثر بعد فيلم 'ناجي العلي'، ومحاولاتهم اختلاق أزمة سياسية ومحاولة تشويه مضمون نضالي شريف، لأمة قاسمتها مصر شعبًا وحكومة مأساتها، مالًا ودماءً، حياةً وموتًا، ونور الشريف يعلم تمامًا المخاطرة ومواجهة الفكر الإسرائيلي الصهيوني الرأسمال وحروب الغزو الثقافي الأمريكي التي يشنونها وبشراسة علي القوة الناعمة العربية التي يتصدي لها آل بيت الفن المصري، لأكثر من مائة وخمسين عامًا من فوق ضفاف نهر النيل، صديقًا، يشد أزر القضية ولا يمكن أعداء العروبة بإضعاف العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية والثقافية، العربية الفلسطينية وحتي لا تصل بحال إلي حد الاختفاء.. وبخطوة عظيمة من نور الشريف، أخذ زمام المبادرة، تصدي بشخصيته المنفردة، صاحبة التأثير الإلهي 'كاريزما' الزعامة الفنية الواعية سياسيًا، وبكل ما أوتي من قوة، تصدي لهذه المصيبة، دون أن يرفع حملة المباخر من خلفه لافتات الدعايات، ولا صاحبته الوفود ولا الكاميرات.. شد الرحال منفردًا يناصر أشرف قضية عروبية وتفتيت أمة مرسوم لها السقوط منذ نهاية الدولة العثمانية ومؤامرات'سايكس –بيكو - ووعد بلفور' وراح نور الشريف يحمل سلاحه ضد كل المؤامرات، لينعم كل عربي بحقه، في وطن تسوده الكرامة وحق الحياة، وما ضاع حق وراءه فنان من آل البيت المصري.. ولنكمل المنظور الوطني الفذ العظيم للمناضلين السياسيين المصريين: عرابي، مصطفي كامل، سعد زغلول، جمال عبد الناصر وسيد درويش.. نور الشريف يكمل رسالة آل البيت الفني المصري ويؤكد كلمات الشاعر والفنان 'أنا المصري كريم العنصرين'، وكأن سيد درويش يوم غناها كان يعنيه بذاته.. غادرنا نور الشريف ابن الحارة المصرية.. حواري ودروب مصر، تودع ابن حي السيدة زينب، واحدة من آل بيت سيدنا رسول الله عليه أفضل صلاة وسلام.. يا للمصادفة.. مصر لا تنسي أبدًا.. أبناءها المخلصين.