أثبتت نتائج الانتخابات التشريعية التي شهدتها تركيا، امس الأحد، ما قيل عن أن البلاد أمام منعطف هام، فالمرحلة التي سبقت هذه الانتخابات طبعها توجه صريح من الرئيس التركي رجب طيب أردغان نحو حصر السلطة داخل دائرته الرئاسية، وذلك بإقرار استفتاء حول تعديل الدستور التركي لتحويل نظام الحكم إلي رئاسي بدلا من برلماني. غير أن رياح نتائج الانتخابات كبحت جماح أردوغان، بل أعادت سيف النظام الرئاسي إلي غمده، ووأدت رغبة الرئيس العارمة في تحقيق سهل لسيناريو إلباس القصر 'الإمبراطوري' الذي يعيش فيه بأنقرة رداء سلطة يوازي ما شكله تشييده من جاه وسلطان. وعلي عكس ما يشتهيه أردوغان، فصناديق الاقتراع التركية وإن أعطت حزب 'العدالة والتنمية' فوزا بالغالبية، إلا أن سخاءها لم يكن بالقدر الذي يمنح حزب الرئيس فوزا مطلقا يتيح له تطبيق خططته في الحكم للسنوات الأربع المقبلة بأريحية تامة، دون الحاجة إلي تشكيل تحالفات حزبية، كما هو حاله اليوم، في سيناريو سوف يطيح للمرة الأولي بمعادلة ال 'One man show' التي اعتاد عليها 'العدالة والتنمية' صاحب 'الغالبيات المطلقة' في شتي أشكال الانتخابات التركية التشريعية منها والرئاسية والبلدية، منذ وصوله إلي السلطة في العام 2002. معادلة جديدة ما مميز الانتخابات الأخيرة عن سابقاتها أن حزب العدالة والتنمية كان طامحا هذه المرة في الحصول علي ثلاثة أخماس مقاعد البرلمان التركي، أي 330 مقعدا من أصل 550، وهو العدد اللازم لفرض استفتاء بشكل أحادي علي تغيير دستور البلاد وإدخال النموذج التنفيذي إلي نظام الحكم في تركيا، ما يعني تعاظم سلطات رئيس البلاد أردوغان. غير أن حصول الحزب علي الغالبية العادية فقط بما نسبته 41 في المئة، سيقلب المعادلة، إذ سيفضي إلي تعزيز سلطات الحكومة علي حساب الرئيس، خاصة أن 'العدالة والتنمية' قد يضطر إلي تشكيل حكومة ائتلافية عبر تحالفات مع أحزاب أخري هي في الغالب من أشد خصومه، بل إن هكذا تحالفات ستكون حتمية إذا ما أراد المضي في مشروع التعديل الدستوري. لكن، يقول خبراء في معهد 'كارنيغي' للأبحاث إنه بشكل عام، لم تعهد تركيا قط استقرارا طويل الأمد في ظل حكومات ائتلافية، فظهور تحالف سياسي كإفراز للنتائج الحالية قد يكون مؤشرا علي مزيد من الانتخابات. من ناحية ثانية، لا يبدو أن تشكيل ائتلاف سيكون مهمة سهلة خاصة أن صلاح الدين دمرطاش زعيم حزب الشعوب الديمقراطي الذي حقق اختراقا في الانتخابات الأخيرة، استبعد التحالف مع العدالة والتنمية، وذلك في تصريحات صحافية عقب الإعلان عن النتائج المبدئية للإنتخابات التي ضمنت لهذا الحزب الفتي دخول قبة البرلمان التركي كممثل للأكراد للمرة الأولي في تاريخ تركيا، ما يضع تساؤلات حول مصير ملف المسألة الكردية. اللاعبون الجدد دخل حزب الشعوب الديمقراطي إلي المعترك السياسي حديثا، فالحزب المؤيد لأكراد تركيا لم يري النور سوي في 2012، وهو الآن قد انتقل للمرة الأولي من التخفي في عباءة المستقلين إلي البروز كلاعب جديد.وبحسب النتائج المبدئية، ضمن الحزب المشاركة في البرلمان بتخطيه عتبة 10% من الأصوات، بعد نجاحه في اعتماد خطاب أكثر شمولية، وتجاوز الحاضنة العرقية ليقدم نفسه كحزب لجميع الأتراك ليس الأكراد منهم فقط، واحتضان دوائر أكثر ليبرالية في تركيا. كما أنه دافع عن المساواة بين الجنسين، ودفع بعدد من المرشحات عن الحزب أكثر من الأحزاب الأخري، فضلا عن أن زعامة الحزب تتقاسمها امرأة مع صلاح الدين دمرطاش. من جهة أخري، احتفظ حزب الشعب الجمهوري '25% من الأصوات' الذي يقود حاليا المعارضة التركية، فضلا عن حزب الحركة القومية اليميني '16.4% من الأصوات' بحصص مهمة في البرلمان التركي، وسط احتمالية الدخول مع العدالة والتنمية في تحالف مفترض. تراجع حزب أردوغان حصد حزب 'العدالة والتنمية' فوزا كاسحا في الإنتخابات التشريعية الثلاثة السابقة التي شهدتها تركيا في 2002 و2007 و2011، وبناء عليها استلم زعيم الحزب رجب طيب أردوغان مقاليد السلطة التنفيذية في تركيا لثلاث دورات متتالية، تحول عقبها إلي أول رئيس منتخب بالاقتراع المباشر في تركيا بعد حصوله علي 51.8 في المئة من أصوات الأتراك في العام 2014. وقد حظي 'العدالة واتنمية' وزعيمه أردوغان طيلة تلك الفترة بشعبية كبيرة، استندت إلي انجازات اقتصادية ملفتة ضمنت له الإستمرار في الحكم طيلة تلك المدة حيث أحدث الحزب اصلاحات اقتصادية بعيد انتخابات 2002، شهد بعده الاقتصاد التركي طفرة نوعية تميزت بالاستثمار في البني التحتية والخدمات الاجتماعية، مما انعكس ايجابا علي مستوي عيش قسم كبير من الأتراك. لهذا، فإن الناخبين كافأوا حزب العدالة والتنمية في الإنتخابات، غير أن الاقتصاد التركي بات يعاني الآن من موجة تباطؤ وبدأ ينظر إلي هذا الأمر باعتباره مسؤولية الحكومة. لذلك، وجدت المعارضة وعلي رأسها حزب الشعب الجمهوري مدخلا عزز خطابها الانتخابي القائم علي العامل الاقتصادي. من ناحية أخري، ألقت المطالب بالحريات الديمقراطية بظلالها علي الانتخابات الأخيرة، فالعدالة والتنمية خسر موقعه السابق كحزب راع للإصلاح خاصة بعد أحداث حديقة 'غيزي' في صيف العام 2013 التي خرج خلالها ملايين الأتراك إلي الشوارع تنديدا بقمع الحريات، تبع ذلك موجة من مزاعم فساد ضد الحزب الحاكم، اهتزت علي إثرها بشكل كبير القاعدة الداعمة للحزب. وعلي الرغم من أن النتائج الحالية لا تحقق سقف طموحات حزب العدالة والتنمية، إلا أنها قد تساهم علي أقل تقدير في دعم جهود تركيا في تقوية سياساتها الخارجية وعلاقاتها مع الغرب، عبر تخطي أزمة الحزب المهيمن علي السلطة، وإظهار وجه تعددي عبر حكومة إئتلافية يفرزها البرلمان الجديد الذي يبدو أنه سيحدد مستقبل تركيا القريب.