كان ينقل عنا ما نعجز نحن أبناء القرية عن نقله لأبناء المدينة، كان يحكي للأفندية روعة صبر الغلابة في حرقة الشمس بحثًا عن رغيف العيش واللقمة الحلال، من قلب العدم، كان يحكي لهم، ضاحكًا ومبتسمًا ويلتفوا من حوله تغمرهم الدهشة والذهول من هول ما يحمله أبناء الصعيد الجواني من ماسي وصمود في مواجهة الفقر والجوع والمرض والأمية، لم يكن كتف أحدًا منا قادر علي حمل كل هذا وفرشه أمام نخبتنا في القاهرة، فنحن لم يكلفنا التاريخ بنقل أسرار ومشاعر وأحوال الغلابة إلي كل الدنيا. كان الأبنودي وحده الذي حمل التفويض والتكليف التاريخي، رغم عشرات ومئات المحاولات التي بذلها أبناء الريف، ولكنه وحده الذي عبأ أحزان نساء الصعيد وإنكسارات رجالهم، ثم أفرغها عدودة وموال وأغنية ورسالة ومشاعر من جبلاية الفار وصخرة السد العالي، حتي الموت باصابع الديناميت حوله الأبنودي إلي تيار شحن وعزيمة وتحدي للصخور وللعدوان الثلاثي لأننا قررنا أن نبني بأجسادنا الصلبة ووحوهنا السمراء، سدًا عاليًا يمنح المصريين الحياة. كان يكتب عن بناتنا رسائلهن في العشق الحلال، كتب عنهن مشاعر الوجد والصبر والوفاء ولم يكتب عن لغة الجسد وإيحائاته الجنسية، كما يفعل مدعي الإبداع هذه الأيام، ظل يكشف عن وجوه منقوش عليها خرائط الحب المتطهر من كل شيء قبيح ولم يكن أبدًا رغم إيمانه العميق بافكار اليسار يغني للجنس والغرائز وعبادة الشيطان ولكنه دق علي اجمل ما فينا وغرد بنا مستقيمًا ومزاوجًا بين الحب والثورة والرجولة والبناء، وهو رفض أن تغني له كوكب الشرق أم كلثوم رغم ما في ذلك من نعيم وقتها، فقط لأنها اختارت له كلمات أغاني لم يريد أن يسمعها جمهوره. ظل الأبنودي محافظًا بداخله علي المسافة بين الشاعر الذي منحه التاريخ تكليفًا بنقل مشاعر حزن وفرح وصبر وانكسار البسطاء وبين الأبنودي الإنسان الذي يكره ويعادي ويحب ويقرب، كان مخلصًا للشاعر فقرأ آلاف الكتب والمعلقات وجاب مئات المدن والقري والعواصم، فلم يكتب الصعيد إلا حكاياته التي عرفها وعاشها ولم يكتب عن السيرة الهلالية إلا برفقة رواتها التاريخيين في مصر وتونس ولم يكتب عن السد إلا من هناك من بين الصخور وزحمة العمال وعرقهم وخوفهم وإصرارهم ولم يكتب عن بشائر النصر علي العدو الإسرائيلي إلا من مدينة السويس وهو يقرأ الوجوه علي الشط وهي تبرز معني التحدي ولم يترك الشعب يغرق في أحزانه منكسرًا وأصر مع عبد الحليم حافظ أن يغني المصريون وينتظرون النهار. كان مخلصًا للشاعر الذي انتزعه من وجدان الصعايدة فقرأ له وسافر له وسجن لأجله وقدمه لنا تاريخًا مكتوبًا ومسموعًا ومصورًا وبني لنا نحن الفقراء والبسطاء ألف جدار في المدينة وشيد لنا مع جريان النهر من الجنوب للشمال جسرًا لبيت الحاكم ورواق النخبة ومقاهي المصريين. عندما جمعتنا والعالم الكبير هاشم رشوان، أيامًا ثلاثة في الأقصر لحضور المؤتمر الدولي لجراحة الكلي والمسالك الذي ترأسه الدكتور هاشم، منذ اكثر من خمسة عشر عاما، قال لي الأبنودي، أنا يا واد يا عديسي جيت هنا علشان ده مؤتمر للغلابة لناسنا اللي بيموتوا من أكل المش المسوس والملوخية الناشفة والإهمال الأسود وتعالي المدينة، استمع للكلمات العشرات من علماء جراحة الكلي في العالم الذين اعتبروا ان حضوره المؤتمر كان الهدية الكبري، علي الرغم من توافد وفود الشعراء والمثقفين والمحبين والبسطاء من مختلف مدن وقري صعيد مصر، الذين لم يتركوه لنا الا قليلا. ومع المبدعين دائما تتواري الشخوص وتحزف المعايير المادية لتحل بدلا منها قيمة ما قدموه لبلادهم وشعوبهم من معين للامة وقت انكسارتها وابداعا لاكمال مشهد انتصاراتها وعندما ايقن ان محطة الرحيل قد أقتربت، عاد إلي قريته التي شيدها في الإسماعيلية علي عينه وهندسها تماما كما رسمتها ذاكرته للقرية المصرية التي نحلم بها جميعا، نظيفة مورقة وخضراء تمنح ساكنيها الأمن والأمل ورحيقا صافيا يمدهم بالحياة. ورغم الرحيل الذي جاء بعد الم مرض لعين يخطف دائمًا أجمل ما فينا ورغم الخسارة ومرارة الفراق التي نفشل كعادتنا في التعبير عنها إلا أن الجدار الذي شيده لنا الأبنودي لن يسقط لأن مصر دومًا تمارس هوايتها مع التاريخ بانجاب بطلاً جديدًا ينهض ويقف مرفوع الرأس، يحمل رايتها عالية خفاقة وسط زعابيب الحزن.