لا أعتقد أن الحكومة لا تريد برلمانا، هذا يتناقض مع المشهد السياسي، ومواقف تلك الحكومة، ومصداقية رئيسها، كما أنه يتعارض مع الدعوة التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي مبكرا بضرورة الانتهاء من الاستحقاق الثالث لخارطة الطريق. لقد رفض الرئيس خلال الاحتفال بعيد الفلاح في سبتمبر الماضي الدعاوي التي طالبت بتأجيل الانتخابات لمدة عام آخر، وأكد أنه من الأهمية بمكان انجازها في أقرب وقت ممكن، وطلب من الحكومة بسرعة اتمام الإجراءات. كانت الحكومة جادة في موقفها، وكلفت اللجنة المسئولة عن إعداد قانون تقسيم الدوائر بانجاز مهمتها، غير أن حكم المحكمة الدستورية الصادر في نهاية شهر فبراير الماضي أعاد الأمور إلي المربع صفر، ولم يكن هناك من خيار سوي البدء من جديد. ووسط حالة من الجدل، والصخب، قررت اللجنة بدء أعمالها مجددًا، وعملت بكل ما تملك علي تنفيذ ملاحظات المحكمة الدستورية، كما أن رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب دعا إلي حوار مجتمعي جديد للاستماع إلي كافة وجهات النظر. وانعقدت لأجل ذلك ثلاث جلسات حوارية ضمت كافة ألوان الطيف السياسي والحزبي والشخصيات العامة فكانت النتيجة تشكيك في مسعي الحكومة ومحاولة لاعادتنا مجددًا إلي ما قبل المحكمة الدستورية، واعادة فتح صفحات تم إغلاقها مسبقا، وبدا وكأن هناك من لا يريد إجراء الانتخابات من الأساس.. وبعد أن انتهي الحوار المجتمعي عادت لغة الاثارة ودعوات المقاطعة مرة أخري من بعض الأحزاب الصغيرة، والتي راحت تتهم الحكومة بأنها لم تستمع إلي مقترحاتها، ولم تستجب لطلباتها، مع أنها تدرك أن كثيرا من هذه الطلبات تتعارض مع الدستور، وتعيدنا إلي نقطة البداية.. كانت القضية المتعلقة بالقوائم هي العنوان الأول، هناك من اقترح التقسيم إلي 40% للمقاعد الفردية و40% للقائمة النسبية و20% للقائمة المطلقة المخصصة للفئات المهمشة. وعندما لم ينجح هذا الاقتراح لأسباب عديدة، طرح البعض تقسيم القوائم إلي ثماني، بالرغم أن المحكمة الدستورية العليا حصنت في حكمها الأخير وضع القوائم الأربعة التي نص عليها قانون مجلس النواب، لذلك ارتأت الغالبية الأخذ بنظام 'الأربعة' مراعاة للظروف السياسية الراهنة، إلا أن ذلك لم يعجب البعض أيضا!! أما المقاعد الفردية فقد مثلت ولا تزال المشكلة الكبري أمام لجنة إعداد قانون تقسيم الدوائر، وإذا كانت المادة 102 قد نصت علي التقسيم العادل للسكان والمحافظات والمتكافئ للناخبين فإن اللجنة تسعي إلي تلافي أي طعن جديد بعدم الدستورية، وإلا فإن الأمر سيتحول إلي مهزلة. ولذلك راحت تعيد رسم دوائر المقاعد الفردية في ضوء الحيثيات التي تضمنها حكم الدستورية، وأولها الوزن النسبي مع الإقرار بنسبة انحراف لا تزيد عن 25% هبوطا وصعودًا، في حين تم الاتفاق علي ألا يزيد الوزن النسبي للمقعد عن 159 ألف صوتا. وقد رأت اللجنة ضم العديد من الدوائر المستقرة والمتعارف عليها إلي دوائر أخري، تبدو غريبة عليها، بل وأحيانا تضطر اللجنة إلي ضم دائرة محدودة لا يزيد عدد الناخبين فيها عن مائة ألف صوت 'مثلا' إلي دائرة يزيد عدد الناخبين فيها عن 250 ألف صوت 'قفط وقوص مثالاً'، وهو أمر يعني أن قفط قد لا تتمكن من التمثيل في البرلمان وأن قوص قد تفوز بالمقاعد الثلاثة المحددة 'وهلم جرا'، ونفس الأمر ينطبق بالنسبة لدائرتي 'قطور وبسيون في الغربية'. وهناك أيضا مخاوف ليست بالهينة من أن التيادات الدينية هي المستفيد الأول من اتساع الدوائر، حيث الأكثر تنظيما، والأكثر مواظبة علي المشاركة، ومن ثم فإن توسعة الدوائر يعني ضم كافة التكتلات 'الدينية' والعناصر المرتبطة بهذا التيار، وتلك ميزة قد يفتقدها الأخرون وهو أمر سيصب لمصلحة هذا التيار الذي سيحقق نتائج مفاجئة تضع الجميع أمام مأزق حقيقي. وإذا أدركنا أن هذا التيار ومن يساندونه في الداخل والخارج وضع ميزانية ضخمة للانتخابات البرلمانية، فإن ذلك سيضيف عاملاً جديدًا، يساند في تحقيق هذا التيار لنتائج انتخابية قد تربك المشهد السياسي وتفتح الطريق للتدخل الخارجي بكل ما يمكن. وإذا كنا علي يقين بأن المؤامرة علي مصر لاتزال مستمرة، وأن هناك من يري أن الانتخابات البرلمانية فرصة لتحقيق ما عجزوا عن تحقيقه في الفترة السابقة، فعلينا أن ندرك أن كافة التيارات الدينية ستتوحد علي قلب رجل واحد، وستخوض معركتها الأخيرة بمنطق: نكون أو لا نكون!! ولذلك إذا أردات مصر أن تحد من سيطرة هذا التيار، الذي يهدد الدولة المصرية وإعادة بنائها ويهدد ثورتي 25 يناير و30 يونية، فالخيار الوحيد، هو في الدوائر المحدودة ذات المقعد أو الاثنين علي وجه التحديد، وإلا فإن هذه اللجنة وتلك الحكومة ستتحمل مسئولية تاريخية أمام الرأي العام بأنها هي التي مهدت الطريق للتيار الديني ليعود ويهيمن ويسيطر، في ظل برلمان يحد من سلطات الرئيس ويحتكر لنفسه غالبية السلطات الأخري. قد يتساءل البعض، ولكن إعادة رسم الدوائر من جديد قد يعطل من إجراء الانتخابات هذا العام، وهذا أمر ليس بصحيح، فالانتخابات مؤجلة بحكم الواقع والظروف، فالامتحانات سوف تبدأ في 9 مايو المقبل وشهر رمضان هو في النصف الثاني من شهر يونية والاجازة الصيفية لن تنتهي إلا مع نهاية شهر أغسطس، ومن ثم فالانتخابات قد تجري في شهر سبتمبر القادم علي أقصي تقدير، ولن يمضي هذا العام إلا ويكون لدينا برلمانًا جديدًا. إذن الأسابيع المقبلة ولحين فتح باب الترشيح عقب اجازة عيد الفطر إذا ما قررت اللجنة العليا للانتخابات ذلك توجب مراجعة كافة التقسيمات والإجراءات التي اتخذتها اللجنة، حتي نتلافي عدم الدستورية، ولا نفتح الطريق أمام عودة التيارات الدينية للبرلمان من جديد، فتعرقل عمله، ويضطر الرئيس إلي استفتاء الشعب علي حله، وهو أمر لن يكون سهلاً!! لقد قررت اللجنة زيادة مقاعد البرلمان ليصل بالمعينين إلي ما يقارب الستمائة عضو، وهو أمر فرضته ضرورات التقسيم الجديد، ولكنه في الوقت نفسه سيعقد الأمور داخل البرلمان بشكل من شأنه عرقلة الأداء بالشكل المستهدف. وهناك أيضًا قضية التعداد الميداني للسكان، وهو أمر فاجأ اللجنة بخلل كبير بين أعداد الناخبين وأعداد السكان بسبب الفرق بين محل الإقامة في بطاقة الرقم القومي والمحل الفعلي، حيث فوجئت اللجنة أيضًا بأن عدد السكان في بعض الدوائر أقل من عدد الناخبين، كما حدث في سكان دائرة النزهة ومصر الجديدة بسبب انتقال محل اقامة الكثيرين منهم إلي العبور والشروق والقاهرة الجديدة وغيرها، وبنفس الأمر بالنسبة لدائرة السيدة زينب، حيث عدد الناخبين يساوي إلي حد كبير عدد السكان وقس علي ذلك!! أيا كان الأمر، إذا كان البعض راح يروج، بإدعاء أن الحكومة لا تريد الانتخابات البرلمانية وتسعي إلي عرقلة اتمامها، فإن الواقع يكذب هذا الإدعاء، فالقضية معقدة للغاية، ولا نملك إلا أن نؤكد علي ضرورة الاحتراز جيدًا من خطر ما هو قادم. دعوا اللجنة تعمل في هدوء، وامنحوها الوقت الكاف، واتركوا لها مساحة الحرية في إعادة رسم الدوائر شريطة مراعاة مصلحة كافة السكان والناخبين، ذلك أن الوطن ليس مستعدًا لتحمل أخطاء أخري، وإلا تحول الأمر إلي مهزلة جديدة.