ما أصعب أن تكتب عن فنانة كبيرة.. بحجم.. وقيمة وقامة.. 'فاتن حمامة' وأنت تشعر بأنك محاصر بعشوائيات شتي.. عشوائيات تأتيك من كل حدب وصوب.. حتي تفقد عقلك ومن ثم صوابك.. وهي التي كانت عنوانًا للرقة، والاحترام، والصدق، والعذوبة! ما أصعب أن تكتب عن فنانة كبيرة.. بحجم.. وقيمة وقامة.. فاتن حمامة.. لتصدم عينيك بالواقع المرير.. في المشهد الأخير.. التي ودعت فيه الجماهير الغفيرة فنانتها ونجمتها المفضلة عبر نصف قرن أو يزيد.. فإذا المشهد القادم من جامع 'الحصري' بمدينة 6 أكتوبر والزحام والتكدس في لحظات خروج الجثمان من بوابة الجامع.. كان ينافس التزاحم في الأسواق الشعبية والعشوائية! فكادت الناس تنكفي علي وجوهها من التدافع علي سلم الجامع. بعد أن وقع 'سوره'.. وكاد الصندوق الحامل للجثمان الرقيق أن يقع علي الأرض.. لكن الله سلم كما يردد المصريون وقت المحن!! ثم إذا بالعلم المصري الذي دثر الصندوق.. ينزاح، وينطرح أرضًا من كثرة الأيادي اللاحثة لمجرد الملامسة البريئة.. ولماذا لم يثبت العلم المصري بالقدر الكافي كما نراه في صناديق الشهداء والكبار؟! ولهذا.. هل يكون هذا المشهد العشوائي - ولا نقول 'الفوضوي'- تجسيدًا لحب، وتقديرًا لعطاء شكل نهرًا للفن؟! أم إنه تجسيدً لانعدام المسئولية، وانعدام التنظيم والانضباط، بل تغفل العشوائية وسيطرتها.. وهي تضرب بعمق في السلوك العام.. وقد تجلت في وداع سيدة تربعت علي عرش السينما.. بعد أن امتلكت قلوب الملايين من المحبين. وهل إذا ما افترضنا أن مسئولًا كبيرًا قد تواجد علي رأس هذا الحشد الكبير.. هل كنا سنري تلك العشوائية.. وذاك الزحام الذي لا يرحم الضعفاء والمحبين الصادقين؟.. أغلب الظن أنه كان سيتبدل وينقلب رأسًا علي عقب!! لكن يظل أن من تألمت بشدة لوقع هذا المشهد الأخير الحزين.. هي صاحبته نفسها 'فاتن حمامة'.. لأنها كانت من أشد المؤمنين بالتنظيم والدقة.. بل إن عنوانها كان التحضر والتمدين في كل شيء، وأي شيء.. ولعل المائة فيلم التي قامت ببطولتها.. فضلًا عن المسلسلات التليفزيونية.. وأخص بالذكر مسلسل 'ضمير أبلة حكمت' وهو يؤكد أن الحضارة هي العنوان العريض للشخصية المصرية الجادة والأصيلة كما رسمها المبدع الراحل 'أسامة أنور عكاشة'.. ليؤكد الإخلاص في التربية والإبداع والابتكار في التعليم.. وبالتربية والتعليم الحق نصبو إلي التحضر والتمدين المنشود والمأمول.. أو بالأحري نقول المفقود!! ما أصعب علي.. أن أكتب عن فنانتنا فاكهة السينما المصرية، وعطرها.. وأتجاهل وصيتها، والتي أوصت فيها.. بأنها لا تريد عزاء، ولا إقامة 'سرادقات'.. يكفيها المشهد الأخير للتشييع!! ولأنني لا أرغب في التفتيش في النوايا.. ولا أحب.. رغم أننا اليوم نعيش في مفترق طرق.. في قلق وعشوائية وفوضوية حقًا وقد انتقلنا من مرحلة 'التكفير' الملعونة التي حاول 'الإخوان' أن يعمرونا بها.. انتقلنا إلي مرحلة 'التخوين' حيث يرمي بعض من الإعلاميين أو المتسمحين به، شباب الثورة '52 يناير' بتهم جزاف.. وهذا شيء محزن ومخيف! يضاف إليه أن يظل شباب ثورة 52 يناير رهن الحبس، في حين يخرج ابنا المخلوع 'جمال وعلاء' من السجن، حتي ولو كانا تحت الإقامة الجبرية!! إن القلق والعشوائية، تصفعني علي أم رأسي مثل ملايين من الأمهات، خاصة شهداء 52 يناير.. وأنا أتأمل هذه الأوضاع المعكوسة والمقلوبة.. يضاف إليها إلغاء احتفالات الذكري الرابعة بثورة 52 يناير.. حدادًا علي وفاة الملك 'عبد الله بن عبد العزيز' رحمه الله لمواقفه النبيلة تجاه مصر ومصيرها خاصة بعد ثورة 03 يونية ووقوفه بصرامة دفاعًا عنها. والمفارقة الحقيقية. تأتي وكأن الأقدار لا تريد.. بل ولا ترغب في أن يحتفل المصريون بالثورة '52 يناير' بينما أبناؤها الحقيقيون أو بعض منهم خلف الأسوار!! طالت مني هذه الجملة الاعتراضية.. لكن عزائي.. أنها تأتي في مجمل العشوائيات التي نعيشها.. والتي كانت تستهجنها بشدة فنانتنا الجميلة، أو فنانتنا الوديعة.. والتي تشعر معها بأنها قد تكون أختك، أو أمك.. حبيبتك أو أحد أصدقائك ومعارفك.. وأعود إلي وصيتها.. وبالمفارقة أيضًا أشاهد في التليفزيون المصري قبل الحداد.. فيلمها 'لا عزاء للسيدات' وهو من إخراج 'هنري بركات' الذي كان أقرب في أسلوب إخراجه إلي الواقعية الشاعرية وبالتالي إلي قلب السيدة فاتن حمامة.. منه إلي الواقعية الصادمة والتي تميز بها المخرج الكبير 'صلاح أبو سيف'.. والتي كانت واقعيته تفزعها وربما تخيفها! في ذاك الفيلم 'لا عزاء للسيدات' إجابة فنية وقد تكون اجتماعية عن لماذا رفضت فاتن عزاء السيدات.. عفوًا عزاء التجمعات والسرادقات بكافة. المشهد في الفيلم يجسد انهيار بطلته 'فاتن' وهي سيدة شابة، مطلقة، لديها طفلة.. وقد فقدت أبواها وهما سندها الوحيدان في الحياة.. وهي تكاد أن تكون سيدة بلا عمل ولا أمل!! وبينما يغمرها الحزن المدوي وفي غياب عمن حولها.. تتفحص الكاميرا.. وجوه السيدات وهن يشبهن 'الحدأة' وجوه صفراء، وعيون سوداء واسعة، وملابس قاتمة.. الواحدة تتقافز من حنجرتها حكاية، وفي لمحة تلتقطها الأخري لتتبادل وشاية، أو 'نميمة'.. وفي النهاية السيدات المجتمعات يشكلن جدارية موشاة بالنميمة الصادمة، وبتبادل الشائعات والحكايات المسكوت عنها!! فهل حملت سيدة السينما المصرية بل والعربية هذا المشهد بين جوانحها سنين طوالًا.. وفي خاتمتها قفز أمامها.. وبالتالي أوصت باستبعاده عن حياتها وحياة أسرتها الصغيرة.. وهي ترغم الأسرة الكبيرة أي المجتمع علي احترام رغبتها.. وكأنها تقول وتؤكد.. دع الفتنة نائمة.. لعن الله من أيقظها. الحداد حقًا لا يليق بفاتن.. ذلك أن لها حضورًا لا ينبغي إخفاؤه.. وهذا يذكرني بأنه عندما أراد النقاد أن يختاروا أهم '001' فيلم في تاريخ السينما المصرية.. كان نصيب فاكهة السينما 'فاتن حمامة' '01' أفلام وهي تجمع بين الفلاحة، والبدوية، والمطلقة، والشابة البسيطة، والسيدة صاحبة القضية.. ولهذا وصفها الناقد 'أحمد رأفت بهجت' بأنها عبقرية متفردة حيث الاختيار الصعب، والتنوع والتباين، والصدق في الأداء، والإبداع في الرؤية الجمالية.. وجميعها عناوين لا تخطئها العين.. ومن هنا جاءت '01' أفلام في الفترة من 1591: 5791.. منها: 'دعاء الكروان'، 'الحرام'، 'لك يوم يا ظالم'، 'أيامنا الحلوة'، 'صراع في الوادي'، 'امبراطورية ميم'، 'أريد حلًا'.. نعم استطاعت 'فاتن' أن تتربع علي القمة.. وستظل عليها لأنها أدركت أن تلك القمة ليست 'مدببة'.. ولا علي مقاس واحدة دون سواها وإنما تتسع للعشرات.. والشروط معروفة مسبقًا.. الإبداع، والاقناع، والقبول. من المؤكد أن نهر الفن الصادق.. استمد قوة الدفع ممن سبقوها وقدومها فقد تشبعت وتربت حواسها في فترة الريادة والدفع الأولي.. فترة ازدهار الغناء والفنون والنحت في الأربعينيات.. والتي شهدت شدو: 'أم كلثوم' و'عبد الوهاب' وفن 'بدرخان' و'يوسف وهبي' و'محمود مختار' وأفكار طه حسين والعقاد.. فالذي قدمها إلي السينما 'عبد الوهاب' وهي طفلة 9 سنوات في فيلم 'يوم سعيد' بعد أن تحمس لها المخرج الكبير أحمد بدرخان.. وقد ارتبطت بعلاقة وثيقة ب'عبد الوهاب' وقد وصفته 'بظرفاء العصر'.. كما أنها تري في 'نجيب محفوظ' أذكي وألطف من قابلته من الأدباء.. وذا تعليقات ساخرة شديدة العمق والدهشة.. أما 'يوسف إدريس' والذي قدمت له 'الحرام' وهو من أهم أدوارها في السينما كما جاء في إحصائية أفضل 001 فيلم في تاريخ السينما المصرية.. فقد وصفته بأنه متوقد الذكاء، متوهج الخيال والأفكار. نعم إن 'فاتن'.. اسم مشتق من الفتنة والجمال.. كما تعثر عليه في لغتنا العربية الأصيلة والجميلة.. وهي شريط حي.. متدفق بالفنون المرئية والمسموعة.. التي أثرت فينا وأبهجتنا أجيالًا تلو أجيال.. علي امتداد عمرها الذي بلغ ال48 عامًا.. والذي سيظل تأثيره.. بعد أن غادرتنا.. لأن الفن لا يموت.. لكنني أتوقف أمام إنسانة مصرية أصيلة.. مثابرة ومبدعة.. استطاعت أن تصنع لنا عقدًا من لآلئ وألماظ فنية.. تتصاعد حباته أو أحجاره الثمينة، التي قد تزيد علي عدد حبات أو أحجار المسبحة الطويلة ذات ال'99' حجرًا.. لكنها تذكرنا دومًا بالمسبحة وبالتسبيح لله عز وجل.. خاصة عندما نضبط أنفسنا ونحن نردد 'سبحان الله' أمام هذا الوجه.. 'وجه القمر' في نجلياته المختلفة.. وهو يشق طريقه إلي القلوب دون مواربة.