كانت مفاجأة، اهتز لها الوجدان، كان الرئيس قد أنهي زيارته إلي الكويت منذ قليل. لقد أعلن رسمياً أنه أوفد كبير الياوران إلي الكاتدرائية لتقديم التهنئة إلي الإخوة الأقباط بعيد الميلاد المجيد. كان البعض يتمني أن يفعلها الرئيس، ولكن ظروف السفر كانت تحول. كنا نتابع في الكاتدرائية مراسم الاحتفال، وفجأة ضجّت القاعة بالهتاف والتصفيق، لقد فعلها السيسي، جاء من المطار إلي الكاتدرائية، صمم علي أن يُدخل الفرحة في قلوب أبناء الوطن من الأقباط، الفرحة كانت عارمة، المصريون جميعاً هتفوا من قلوبهم: 'عاش السيسي'. صعد الرئيس إلي منصة الاحتفال، احتضن البابا تواضروس الثاني، أمسك بالميكروفون، وجّه كلماته إلي 'المصريين'. إنها الكلمة المحببة إلي قلبه، التصفيق والهتاف لا يريد أن يتوقف، تدخّل البابا ليطلب من الحاضرين الهدوء، سعادة المصريين لا توصف، إنها اللحظة التي طال انتظارها!! تحدث الرئيس عن مصر التي لا تفرق بين أبنائها، عن الحاضر وعن المستقبل. السيسي يتحدث من القلب، سماحة وجهه تمنحه مصداقية عالية وتفتح أمامه قلوب المصريين، لقد أحبوه، وصدقوه، ووثقوا فيه. دقائق معدودة تلك التي قضاها الرئيس في الكاتدرائية، لكن دلالتها كانت أعمق بكثير من كونها زيارة للتهنئة، إنها بداية عهد جديد للعلاقة بين أبناء الوطن الواحد، عهد خال من التمييز، إلا علي أساس الكفاءة والأداء، انتهي زمن الفُرقة إلي غير رجعة، لا أحد يستطيع أن يفرق بيني وبين شقيقي في الوطن، ولا أحد يستطيع أن يزايد علي وطنية أحد، في وقت الأزمة جميعنا يدفع الثمن، وقد جربنا ذلك وخبرناه، ليس فقط في زمن الإخوان وإنما أيضاً في عهود سابقة كانت تري أن بقاءها لن يستمر إلا بإثارة الفُرقة والتناحر بين أبناء الوطن الواحد. دفعنا الثمن من دمائنا وأرواح أبنائنا دون قضية تُذكر، لكننا كنا علي ثقة بأن لحظة الصدق سوف تأتي، وبأن صفحات التاريخ المشرقة سوف تطل علينا من جديد. لقد قالها قداسة البابا شنودة الذي رحل عن عالمنا: 'مصر وطن يعيش فينا، لا وطن نعيش فيه'، عبارة اخترقت القلوب ولا تزال تدوي في العقول. وقالها قداسة البابا تواضروس الثاني: 'وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن'، للوطن أفضلية، وهذا هو معني الانتماء. أترانا في حاجة إلي أن نسترجع صفحات وكلمات سينوت حنا ومكرم عبيد وفخري عبد النور والقمص سرجيوس الذي وقف علي منبر الأزهر رافضاً الحماية البريطانية علي الأقباط، ليقول: 'فليمت الأقباط ولكن فليعش المسلمون أحراراً'، هل نحن في حاجة إلي أن نتذكر مسيرة قداسة البابا 'كيرلس' ودوره الوطني وعلاقته مع الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، أم نتأمل شجاعة ونبل الفريق فؤاد عزيز غالي، وغيره كثيرون؟ إن خطوة ما بعد زيارة الرئيس هي الأهم، إننا نريد أن نؤسس لعلاقة راسخة وثقافة تجمع ولا تفرق، وتعليم يؤكد علي حقوق المواطنة وشعار الدين لله والوطن للجميع. إن زيارة الرئيس السيسي للكاتدرائية تبشر بثقافة جديدة، آثارها ستبقي خالدة في الأذهان. هي رسالة تؤكد، كما قال، دور مصر وحضارة مصر وتعكس تاريخها، هذا التاريخ الذي سيبقي شاهداً رغم حقد الحاقدين وإرهاب المتآمرين. لم يكن الرئيس وحده في هذا اليوم، كانت مصر كلها تحتفل مع الأشقاء، كانت الوجوه التي ذهبت إلي الكاتدرائية تعكس كل ألوان الطيف الوطني، بينما راح آلاف المواطنين والنخب القبلية والعائلية في أنحاء مصر كلها يتولون حراسة كنائس الأشقاء من غدر الإرهاب الذي فشل في اختراق هذه الحواجز، ومضت ليلة العيد بسلام. كان دعاء الكنائس والأديرة بالأمس أن يحفظ الله مصر ويحفظ شعبها ورئيسها النبيل، وكانت القلوب تهفو بالدعاء بأن يكمل الله فرحة المصريين بالإفراج عن المخطوفين في ليبيا، الذين قضوا العيد وهم مهددون بالموت بين كل لحظة وأخري علي الأرض التي أصبحت مرتعاً خصباً للإرهاب. لم يكن فقط دعاء الكنائس، بل كان دعاء كل المصريين بلا استثناء. إن الأحداث التي مرت بها مصر خلال السنوات الأربع الماضية أكدت للجميع أننا جسد واحد، همنا واحد وكفاحنا واحد وآمالنا مشتركة. في الثلاثين من يونيو، وقبلها في الخامس والعشرين من يناير، لم يكن أحد يفرق بين المسلم والمسيحي، كنا جسداً واحداً وصوتاً واحداً وهتافنا يشدو لمصر، لتاريخها وحاضرها ومستقبلها. أتذكر أنه، وفي يوم الثلاثين من يونيو، يوم الثورة علي حكم الإخوان، كنا نمضي في مظاهرة عارمة من ميدان التحرير إلي الاتحادية، وعند الكاتدرائية كان الهتاف الموحد: 'مسلم، مسيحي، إيد واحدة'. وقفنا أمام الكاتدرائية لبعض الوقت، كان المتظاهرون يريدون أن يبعثوا برسالة رداً علي هجوم بلطجية الإخوان علي مبني الكاتدرائية قبلها بأيام، كانت مصر كلها تهتف معنا في هذا الوقت، وكانت النساء تطل من شرفات المنازل المحيطة بالكاتدرائية تهتف معنا رافعة علم مصر، لا تستطيع أن تفرق بين المسلم والمسيحي إلا -كما قال اللورد كرومر- عندما يذهب المسلم إلي المسجد وعندما يذهب المسيحي إلي الكنيسة!! وعندما حانت لحظة النصر وانتصر الجيش لإرادة الشعب، كانت فرحتنا واحدة، وكان أشقاؤنا يعرفون أنهم سيدفعون الثمن. أحرق الإرهابيون أكثر من ستين كنيسة، أهانوا الآباء الذين انهمرت الدموع الغالية من عيونهم حزناً وألماً، لكن كلمات البابا كانت برداً وسلاماً عليهم، كانت رسالة للداخل والخارج: سنصلي أمام المساجد أو في أي مكان آخر، لكنهم أبداً لن يجرونا إلي مصيدة الفتنة. مضت الأيام وجاء ابن الشعب، استدعاه الشعب ليقود السفينة إلي بر الأمان، الأوضاع صعبة والمؤامرة كبيرة، بلد ممزق، وانقسام مجتمعي لم تشهده مصر منذ قرون، لكن السيسي لا يعرف المستحيل، عزم وتوكل علي الله، دعانا إلي عقد اجتماعي بيننا وبينه، كل منا يعرف حقوقه وواجباته، قال إنه ليس حاكماً، بل هو واحد منا، وأثبت علي مدي الشهور الماضية أنه صادق الوعد.إن الشعب المصري بكل فئاته يعرف أن المرحلة صعبة والأزمة كبيرة، لكنه يثق في أن الرئيس لن يخذله وسيحقق له ومعه آماله وطموحاته، وسيبني مصر 'الجديدة' خالية من الفساد والاستغلال والتمييز. مصر التي نريدها هي مصر للجميع، ليس لفئة محددة أو مجموعة تحتكر السلطة والثروة، مصر العدل والحرية، مصر حقوق المواطنة، مصر الكيان القوي بمؤسساته العريقة وجيشه العظيم.