علي عادة الإخوان في المبالغة والسير وراء الأوهام.. كتب حسن دوح زعيم طلاب الإخوان القيادي البارز في الجماعة كتب في مذكراته فترة الاعتقال علي خلفية صدام الجامعة 13 يناير 1954 'وحدثت تقلبات خارج السجن.. وذلك بعد أن قاد عبد القادر عودة مظاهرة ضخمة ضد ديكتاتورية الحكم.. وطالب رجال الثورة بالحياة البرلمانية، والإفراج عن المعتقلين السياسيين. وقد ناصره في هذه الانتفاضة الشعبية رئيس الجمهورية محمد نجيب.. ووجد عبد الناصر نفسه محاطًا بكراهية شديدة من الشعب والجيش.. ففكر بدهائه في التراجع أمام الإخوان.. وأصدر قراره بالإفراج عنا جميعًا.. وكان ذلك بعد ثلاثة أشهر من اعتقالنا.. خرجنا من المعتقل مجللين بهامات النصر.. وكان الشعب فرحًا بالإفراج عنا'. وهو كلام عام بعيد عن الحقيقة.. غير ملم بتفاصيل ما جري.. فلم يكن عبد القادر عودة ممن شملهم اعتقال يناير.. وفي مساء أحداث 28 فبراير بميدان عابدين.. تم اعتقال عودة وعمر التلمساني وطاهر الخشاب المحامي وغيرهم.. وكانت التهمة الموجهة لعودة التدبير للمظاهرة وقيادتها. وعن هذه الفترة كتب د.عبد العزيز كامل في مذكراته: 'ضم المعتقل غير قليل من قادة الإخوان.. كان معنا المرشد وأدركنا عودة وعابدين، ومنير دلة، وحسن عشماوي، وصلاح شادي.. ولكن الذي استرعي انتباهي أن عددًا من قادة الجهاز السري لم يكونوا بين المعتقلين.. بينما كان معنا في مكان آخر: سيد قطب وسعيد رمضان.. جانب آخر من قيادات الإخوان غاب عن هذا الاعتقال.. وهم الذين كانوا علي صلة برجال الثورة.. يضافون إلي قيادات من الجهاز السري'.. ويؤكد د.عبد العزيز كامل أن تلك الفترة كانت 'معملا' تميزت فيه عناصر الرجال.. وهجومهم.. وأنماط تفكيرهم.. ويصف الهضيبي بأن الأحداث كانت أكبر منه.. ومن أجل ذلك رغب أن يكون إلي جواره عبد القادر عودة بدينه، وعلمه، وقوته.. وتفرغه للعمل.. ومن ثم دب الصراع بين عودة وبين القيادات القديمة.. ذلك الصراع الذي كانت له آثاره المدمرة علي الإخوان.. وقد ظهر جليًا في فترة الاعتقال الذي يصفه الرجل بأنه كان أخدودًا يمر في أرض الإخوان.. ويقسمها إلي شريحتين علي الأقل: شريحة تعاونت مع الثورة، وهي قطاعان: أحدهما عام والآخر من النظام الخاص أو الجهاز السري.. وشريحة أخري تمثل الجسم الكبير.. أو الأغلبية الصامتة، مع القيادة المنظورة والشرعية للإخوان.. وتحاول أن تحافظ علي ذاتها بينما تري أطرافها تتآكل أمامها.. أطراف يمثلون قطاعًا طوليًا.. يمتد من القيادة وهو الأبرز ثم يسري متجهًا إلي القاعدة. ولعل المعني الذي يدور حوله د.عبد العزيز كامل يتضح في المثال الذي اهتم بتسجيله بكل تفاصيله في مذكراته 'في نهر الحياة'.. وحرصه الذي يبدو غير مقصود علي إلقاء الضوء علي حياة.. وأسلوب التعامل.. مع بعض زملائه المعتقلين.. حتي ليخيل للقارئ أنه يقارن بالتحديد.. بين عبد القادر عودة وسيد قطب.. يقول د.كامل: 'عندما التحق بنا عبد القادر عودة بعد أيام.. أحسست فيه بوادر العذاب المقبل.. لقد أخذوا الرجل وآذوه. ولازلت أذكر آثار التعذيب.. وهو يتحسس وجهه وجسمه.. ويطمئن علي أسنانه.. هل هي في مواضعها أم أن الأذي قد أتي عليها..؟! كان صابرًا، ويبتسم في ألم.. ويتصبر دون أن يذكر تفاصيل ما كان.. حركته وما يشوبها من ألم، القيام أو الجلوس أو الوضوء.. طوال صمته، وحضوره الغائب عنا.. '. ثم يلمس د.كامل الحقيقة من بعيد.. كتب: 'كانت فرصة انفردوا فيها بالرجل.. وظنوا أنه يغزل علي غزلين.. الثورة والإخوان.. وفي اندفاعه.. أروه يدهم الباطشة'. وعلي الجانب الآخر يكمل: 'وكان معنا سيد قطب.. أمضي وقته في المستشفي.. كان في مطالع كتابته 'في ظل القرآن' الذي بدأ نشره في مجلة 'المسلمون' التي كان يصدرها سعيد رمضان.. ثم استقل سيد بجهده العلمي.. كنت أراه أحيانًا حين تتاح لي فرصة الخروج من المعتقل إلي المستشفي، وكان أحيانًا يأتي لزيارتنا حين تسنح له الفرصة.. نهاره كله في القراءة والكتابة.. أذكره.. وتفسير ابن كثير غير بعيد من يده.. وقلمه الحبر الأسود في يده.. وأوراق يكتب فيها بخط واضح.. وسطور منتظمة.. وتخرج من يده في طريقها بعد هذا إلي المطبعة ولا أحد يمكنه تحت أي ظرف أن يدافع عن التعذيب.. أو يحاول إيجاد مبرر لإذلال إنسان.. وإهانته مهما كانت جريمته.. فالقانون هو الفيصل، وهو الذي يملك حق العقاب.. وإذا كان البعض قد حاول تصوير الأمر علي أنه أخطاء فردية.. وسلوكيات مريضة من البعض.. إلا أن ذلك وغيره.. لا يبرر شيئًا مما جري مع عبد القادر عودة.. وشهد به زميله د.عبد العزيز كامل.. الذي حاول فيما يبدو أن يقول الكثير.. ولكنه كان يحجم في كل مرة.. وقد يوحي لما يريد قوله.. من بعيد.. وقد رصد في مذكراته موقفًا غريبًا.. هو كيف تجعل من الحارس.. الجندي البسيط.. عدوًا يتربص بك.. وينتهز الفرصة لإيذائك.. يكتب عن انفراجه داخل المعتقل 'يناير 1954'.. قال: 'وما إن تغيرت معاملة السجن لنا، حتي تغيرت معاملة بعضنا للجنود.. وأقولها أسفًا: فهؤلاء لا يخرجون عن كونهم أدوات تحركها قيادات مسئولة، تعرف ماذا تريد، وتأمر بما تريد، أمر وهم بالايذاء فأذونا، وأمروهم بالإحسان فأحسنوا معاملتنا، وكان بعضنا قد رأي فيهم رموز السلطة، فأراد أن ينتقم من هذه الرموز.. فأرهقوهم من أمرهم عُسرًا.. وعندما دارت الأيام وعدنا، لقينا بعض من كان في السجن من جنود، وكنا في أوقات عسرة وشدة.. وانتقم بعضهم منا، وصبوا الكثير من أحقادهم علي من تعرفوا عليهن، ممن أساءوا معاملتهم في الاعتقال الصغير.. وكان بعضهم علي خلق طيب، بقدر ما تسمح به ظروف السجن من التعبير عن هذا الخلق.. ومع حرصهم علي ألا يصيبهم أذي هم أدري الناس به.. لأنهم أدوات الجلاد.. وخزنه ناره'.. ومازلنا مع 'عبد القادر عودة' ورحلة عمره التي قاربت علي النهاية'.