كان الصراع قد بلغ مداه داخل مجلس قيادة الثورة.. وبالتحديد بين محمد نجيب ومجموعة الضباط الشبان بقيادة جمال عبد الناصر.. وتمكن الإخوان من إقناع نجيب بأنهم أكبر قوة في البلد.. وأنهم يقفون معه لآخر مدي.. وخططت بعض القوي السياسية الأخري حتي يبدو نجيب مطالبًا بالديمقراطية في مواجهة ديكتاتورية ضباط القيادة 'الطامعين في السلطة'.. وكانت الأيام الأخيرة من شهر فبراير أيامًا حاسمة.. فقد أعلن وزير الإرشاد وقتها 'صلاح سالم' عزل محمد نجيب.. وكان القرار صادمًا لأغلب الناس غير المتابعين.. والذين لا يعرفون غير محمد نجيب.. ولعب الإخوان دورًا أساسيًا في إثارة الناس.. وقاموا بالحشد لأكبر تظاهرات تمكنوا من تنظيمها.. حتي خشي الجميع أن تعم الفوضي.. وعاد محمد نجيب تحت ضغط الجماهير.. وكان يوم 28 فبراير 1954 يومًا مشهودًا في تاريخ الإخوان.. حيث جلبوا أتباعهم من كافة المحافظات.. في حشد لم يسبق له مثيل.. لإظهار قوتهم.. وإقناع نجيب بأنهم من أعادوه للسلطة رغم أنف عبد الناصر وأعضاء مجلس قيادة الثورة.. في ذلك اليوم.. ارتفعت المصاحف.. وارتجت مصر بالهتافات: لا شرقية ولا غربية.. إسلامية إسلامية.. إسلامية قرآنية.. وبدأت عمليات العنف والتخريب.. وتصدت الشرطة للمتظاهرين.. وسقط جرحي من الطرفين.. وخطب عبد القادر عودة فأشعل حماس الحشود.. ورفع قميصًا أبيض مخضبًا بالدماء.. يلوح به.. ومارس كافة ألوان الإثارة.. ضد جمال عبد الناصر ومجلس قيادة الثورة الذي كان يجلس معهم بالأمس في مودة.. يبحثون عن حلول لأغلب المشاكل المثارة.. وإزالة سوء الفهم بين الثورة والإخوان.. يومها.. في 28 فبراير 1954.. كان عبد القادر عودة يقف بقامته المديدة.. وحجمه الضخم داخل سيارة جيب مكشوفة.. متنقلًا بين الحشود الإخوانية.. وكان يتبعه كظله.. 'المعلم إبراهيم كروم' فتوة بولاق والسبتية.. علي صهوة جواده.. يطلق الرصاص من مدفع رشاش يحمله.. وكان الفتوة إبراهيم كروم -أشهر فتوات زمانه-.. يمتهن الفتونة وعملًا تجاريًا محدودًا.. وكان ذائع الصيت.. فعمل حسن البنا وقيادات الإخوان علي اجتذابه.. واستمالته.. حتي كان البنا يجلسه إلي جواره في المؤتمرات الحاشدة.. وخلال درس الثلاثاء في المركز العام للإخوان.. حتي أصبح الرجل من أشد أتباع البنا المخلصين.. فازدادت مكانته في المناطق التابعة له.. وراجت تجارته بشكل لم يكن يحلم به.. حتي صار من الأثرياء.. وبالمناسبة فهو عم الكاتب الصحفي الناصري 'حسنين كروم'.. ويومها انطلقت المظاهرات من كل حدب وصوب حتي أحاطت بقصر عابدين حيث يجتمع مجلس قيادة الثورة.. ويقال إنه كان هناك اقتراح بتحريض الحشود لاقتحام القصر واعتقال عبد الناصر وضباطه وربما قتلهم وقد تم تأجيل الاقتراح.. واستمر عودة في التلويح بالقميص المخضب بالدم والصراخ في الجماهير المستفزة أصلًا.. والمدربة والملقنة.. وخرج محمد نجيب بغليونه سعيدًا مبتهجًا.. لا يستطيع أن يخفي شعور الزهو بالحشود التي جاءت لتأييده.. وتطلع نجيب هنا وهناك.. فرأي عبد القادر عودة.. وكان الشعور السائد أن الإخوان لم ينصرفوا.. وأن تطورات خطيرة يمكن أن تقع في أي لحظة.. وأشار محمد نجيب لعبد القادر عودة.. يدعوه للصعود إلي جواره.. ولم يكف كُتَّاب الإخوان عن وصف المشهد.. حيث ترجل عودة باتجاه الباب الرئيس للقصر.. يتبعه علي حصانه الفتوة إبراهيم كروم ورصاص مدفعه يتطاير في الهواء حتي باب القصر.. وارتج الميدان الشهير تحت دوي هتافات الإخوان.. وهم يرون أحد زعمائهم يقف في الشرفة.. رأسه برأس رئيس الجمهورية.. بل ربما أعلي منها.. ونجيب يحيطه بالاحترام والتوقير.. ويتودد له باسمًا.. يلوح لجماهير الإخوان.. ويده علي كتف عودة.. الذي ترك المشهد يحقق أهدافه.. ثم رفع يده.. فصمت الميدان تمامًا.. وأخرج مصحفًا من جيبه موجهًا كلامه للمتظاهرين: 'أيها الإخوان.. لقد اجتمعتم علي هذا.. وباسم هذا أسألكم الانصراف فرادي.. وفي هدوء'.. فتمت الاستجابة فورًا.. وأخلي الميدان خلال دقائق.. كان عبد القادر عودة خلال خطبه النارية التي قاد بها حشود الإخوان يوم 28 فبراير 1954.. في مواجهة جمال عبد الناصر ومجلس قيادة الثورة.. ودعم محمد نجيب.. قد قال كل شيء يمكن أن يرد علي بال أعدي أعداء الثورة.. طالب بالدولة الإسلامية.. وحكم الشرع.. ومواجهة الديكتاتورية والاستبداد.. وضرورة عودة الضباط إلي ثكناتهم.. ومنعهم من التدخل في السياسة.. وقد هاجم بعضهم بالاسم.. وذكر أشياء وآراء جرت بينهم وبينه.. ولم يترك خط رجعة لإمكانية المصالحة، ومعالجة الخطأ.. وعودة المياه لمجاريها.. وقد صعق الضباط الشبان من ذلك السلوك.. وتلك القدرة علي التلون.. وهم الذين استمعوا إليه قبل أيام قليلة يسعي للمصالحة.. ويبدي كل التأييد لهم.. والإعجاب بعبد الناصر شخصيًا. ويبدو أنهم -رجال الثورة- قرروا في أنفسهم أمرًا.. فلم يكن عبد القادر عودة قد اعتقل مع المرشد ومكتب إرشاده وبعض أنصاره علي خلفية أحداث الجامعة.. وتقرر اعتقاله بتهمة تدبير المظاهرة.. والتخطيط لما هو أبعد من ذلك.. ومن ثم أضيف إلي المعتقلين السابقين المرشد ومكتب إرشاده.. ومعهم د.عبد العزيز كامل.. الذي سجل كل شيء بدقة.. وما سجله يستحق التأمل.. سواء بالنسبة لعبد القادر عودة.. أو للإخوان.. وقادتها. ومازلنا مع عبد القادر عودة..