إذا وصفت الحضارة اليونانية بأنها حضارة 'العقل'، ووصفت الحضارة المصرية الفرعونية بأنها حضارة 'الضمير' أو حضارة 'ما بعد الموت'، فإن الحضارة العربية الإسلامية هي حضارة 'النص' بامتياز. والمقصود بالنص هنا، هو النص القرآني المجيد.فالقرآن الكريم كتاب ربّي أمة، وصنع حضارة، وأنشأ ثقافة، وقامت حوله حركة علمية خصبة فاعلة، لم يتوقف عطاؤها منذ نزل علي سيدنا محمد -صلي الله عليه وسلم- منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام حتي اليوم. هذا فضلًا عن سلطانه الروحي الذي يأسر العقول، ويأخذ بمجامع القلوب، وينفذ إلي أعماق الوجدانات، ويهذب النفوس، بعد أن يصهرها في بوتقة هداياته الشاملة. وقد تعددت مداخل العلماء إلي مناحي إعجاز النص القرآني المجيد، بحسب تخصصاتهم. فمنهم من دخل إليه من زاوية الإعجاز في تشريعه وأحكامه وحدوده. ومنهم من قاربه من زاوية الإعجاز الغيبي، بأخباره الصادقة عن المغيبات، سواء في ذلك كشفه لحجب المستقبل أو حجب الماضي واسمه وأحداثه الغابرة. ومنهم من تعمق إعجازه العلميّ الذي يدعو العقول إلي النظر في الظواهر الكونية في الأرض والسماء وما بينهما من إنسان وحيوان وطير ونبات وماء إلي سائر الموجودات والظواهر الأخري. إلي غير ذلك من أوجه الإعجاز الأخري التي وصل بها الدكتور حسين نصار إلي خمسين وجهًا. غير أن وجه الإعجاز الأساسيّ للنص القرآني تلمين في إعجازه البلاغيّ الذي لا يمكن فهم بقية أوجه الإعجاز الأخري وتحصيلها إلا من خلاله. وقد هّيأ الله لهذا العلم الدقيق العميق رجالًا بذلوا من أجله أعظم الجهد، وأفنوا في سبيله زهرة الأعمار. يكشفون عن أسرار بلاغته السامية، ويقيدون الشبهات التي يثيرها ضده خصومه الحاقدون، أعداء الدعوة الإسلامية. تعهد أولئك العلماء النص القرآني بالاحتفاء والرعاية، فأكبوا علي دراسة إعجازه اللغوي البلاغي منذ عهود باكرة، عندما ألف أبو عبيدة معمر بن المثني 'ت: 210ه' كتابه 'مجازات القرآن'، ومن بعده أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ 'ت: 255ه' وكتابه 'نظم القرآن' ثم الإمام أبو بكر الباقلاني 'ت: 403ه' وكتابه 'إعجاز القرآن'، ثم الإمام عبد القاهر الجرجاني 'ت: 471ه' وكتابه 'دلائل الإعجاز'، ثم الإمام يحيي بن حمزة العلويّ اليمني 'ت: 629ه' وكتابه 'الطراز' المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز. أما في العصر الحديث فقد استأنف الإمام محمد عبده 'ت: 1905م' الدراسة التطبيقية البلاغية التي تسفر عن إعجاز النصر القرآني، من خلال تفسيره 'المنار' الذي أكمله من بعده الشيخ محمد رشيد رضا. ولمع اسم الدكتور محمد عبد الله دراز 'ت: 1958م' كالشهاب في هذا الميدان وكتابه 'النبأ العظيم' وأرسي الشيخ أمين الخولي 'ت: 1966م' بجامعة القاهرة دعائم مدرسة الدراسة البيانية للنص القرآني، وأسهم معه تلاميذه في هذا المجال، ومنهم الدكتورة عائشة عبد الرحمن في كتابيها: 'الإعجاز البياني للقرآن'، وهو دراسة نظرية تاريخية، و'التفسير البياني للقرآن الكريم' وهو دراسة تطبيقية. وألف مصطفي صادق الرافعي كتابه 'إعجاز القرآن والبلاغة النبوية'، ثم الدكتور مصطفي محمود ومحاولته إنجاز تفسير عصريّ للقرآن في كتابيه: 'التفسير العصري للقرآن' و'القرآن كائن حيّ'. وفي جامعة الأزهر برز اسم الدكتور محمد محمد أبو موسي الذي كرس جهده في خدمة التحليل البلاغي للنص القرآني، من خلال كتابيه: 'الإعجاز البلاغي' و'من أسرار التعبير القرآني.. دراسة تحليلية لسورة الأحزاب'. في هذا السياق الممتد يأتي إنجاز الأستاذ الدكتور حسن طبل، أستاذ البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن، بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة، والذي لا يني عن بذل الجهد وإطالة التأمل في النص القرآني الحكيم، ومقاربته بمنهجية الدرس البلاغيّ التحليلي، لاكتناه أسراره التعبيرية، والوقوف علي فرادة تراكيبه، وإعجاز نظمه وبنائه. ولم يكتف الدكتور حسن طبل بإعمال آليات البلاغة العربية في التحليل النصيّ - وهي لم تزل صالحة - وإنما وصلها بالعلوم الحديثة التي تعد امتدادًا تطوريًا لها، بل يدفع - في حماس - طلابه في الدراسات العليا إلي التزود من هذه العلوم الحديثة، واستثمار عطاءاتها العلمية، وما تبثه من روح علمية في هذه الدراسة الأدبية مثل: علم الأسلوب باتجاهاته المختلفة، أو الأسلوبيات الحديثة، وعلم تحليل الخطاب، وعلم النص الذي أحدث نقلة نوعية هائلة في التحليل النقديّ علي يد فرسانه 'فان دايك' و'روبرت دي بو جراند' و'جوليا كريستيفا'، بما أتاحه من آليات تحليل صارمة، يمكن من خلالها اختيار مدي كفاءة التماسك النصيّ أفقيًا أو رأسيًا، كالسبك والحبك ووسائلهما والكشف عن كل من البنية الدلالية الكبري والبنية التشكيلية العليا للنص. وأما علي المستوي التطبيقي، فقد أسهم الدكتور حسن طبل بدراسات عميقة وأصيلة، ويأتي في مقدمتها دراسته الموسوعية عن 'أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية'، والتي يقدم فيها تأصيلًا نظريًا لظاهرة الالتفات، ثم يتناول بالتحليل البلاغي النصيّ كثيرًا من مواضع الالتفات في القرآن الكريم، وفي نهاية دراسته يضع أمام الباحثين ثبتًا تفصيليًا إحصائيًا يحدد المواضع الالتفاتية في النص القرآني كله، والتي بلغت حوالي ثمانمائة موضع، لمن أراد التأمل ومواصلة البحث في هذه الظاهرة القرآنية المدهشة. كما جاء كتاب 'حول الإعجاز البلاغي للقرآن.. قضايا ومباحث' حاويًا لكثير من الدراسات التي تنصب علي ظواهر بلاغية داخل النص القرآنيّ، أو علي بعض القضايا التي تعتمل داخل حقل الإعجاز البلاغي للقرآن. من هذه الدراسات نذكر علي سبيل التمثيل: 'وحدة السياق في سورة القيامة' و'تناسب الفواصل القرآنية' و'البيان القرآني وتهمة الشعر' و'صورة الكناية في القرآن الكريم' و'السياق وتنوع أوصاف الماء في القرآن الكريم' و'الدور الوظيفي ل'كأن' التشبيهية في ضوء مواقعها في القرآن الكريم'. ولا يوازي تلك الكتب والدراسات في الأهمية، إلاّ صناعة الباحثين التي يوليها الدكتور حسن طبل جل عنايته واهتمامه، أولئك كتبه الحية التي تمشي علي الأرض وتسعي بين الناس، وتنتشر في أرجاء الوطن العربي كله. وهو في هذه الناحية يشبه الشيخ المجدد 'أمين الخولي' الذي كان اهتمامه بصناعة التلاميذ والباحثين، أي الكتب البشرية، يفوق اهتمامه بتأليف وصناعة الكتب الورقية. وقد جمع الدكتور حسن طبل، شأن كل العلماء القرآنيين، بين العلم والرفيف الإنساني النادر، والحدب الأبويّ الحميم، ذلك ما يلمسه ويشهد به كل من يقترب منه أو يتعامل معه. جزي الله كل علماء الأمة العربية والإسلامية خير ما يجزي به العلماء المجاهدين الصادقين.