ضجة عظيمة في كافة أرجاء أم الدنيا أثارها قرار وزير الثقافة الراحل محمد عبد الحميد رضوان في ثمانينيات القرن الماضي بمنع فيلمي 'خمسة باب' و'درب الهوي' قبل أن يحكم القضاء بإلغاء القرار والسماح بعرض الفيلمين، واليوم وبعد أكثر من ثلاثين عامًا إذ بروح المرحوم تُبعث من جديد لتلبس المهندس إبراهيم محلب - رئيس وزراء مصر الحالي، أطال الله بقاءه -، فيقوم بتكرار ذات نفس القرار 'الرضواني' الشهير، ولكن هذه المرة بمنع عرض فيلم 'حلاوة روح'. وعلي ما يبدو أن المهندس محلب كان يعاني شخصيًا قلة حيلة سلفه الدكتور حازم الببلاوي، الذي كان أداء حكومته نموذجًا يُدَرَس عند وضع معايير للسلبية، فلم تكن لتكترث بالأحداث الملتهبة، والقضايا المصيرية المُلحة. باختصار وكما هو معلوم كانت مكبرة دماغها وشايله إيديها من كل حاجة، فأتي المهندس محلب ولسان حاله يريد أن يقول: إنسوا.. لست أنا هذا الرجل، فغرس أنفه في الصغيرة قبل الكبيرة حتي إنه عمل عقله بعقل 'السبكي' ذلك الجزار عاشق اللحم، المقتحم لعالم الفن مدفوعًا بهوسه الفطري، كل اللحوم عنده سواء، فبين لحوم العجول المذبوحة ولحوم البشر المكشوفة لا شيء يختلف، كلها ذبائح تُنحَر تحت أقدام الزبائن، فتنزف الدماء ولا يتحرك ساكن، لتنتفخ العقول والكروش والخزائن، لا يفرق بين السلخانات والمضاجع، ففي كليهما ترقد الضحية مضرجة بدمائها يسيل عليها لعاب مشاهديها المشتهون إلي اللحم المجرد من الثياب، أو حتي الأكفان، فلا أهم من أن تكون عارية والسلام. أخطأت يا دولة رئيس الوزراء حينما تدخلت في غير اختصاصك متخطيًا وزير الثقافة 'المسئول الأول' ورئيس جهاز الرقابة علي المصنفات الفنية 'المسئول المباشر'. أخطأت عندما سلسلت حرية الفكر والإبداع المكفولة بدستور 2014. ولكن الأخطر من وجهة نظري أنك أصدرت قرارًا يبشر بإطلاق جيل جديد من تكنولوجيا 'الخيار والفقوس' بدواعي المجاملة أو الخوف، وكلاهما مقيت ولا يليق بابن بلد حمش مثلك، وإلا لماذا منعت 'حلاوة روح' بينما لاتزال تسمح لباسم يوسف بتقديم برنامجه علي مسرح سينما راديو بلا أدني التزام بشروط العرض العام، فالألفاظ، والسباب، والحركات، والإيحاءات التي يقوم بها باسم يوسف حتي وإن تم تشفير بعضها بالعرض التليفزيوني فهي تخالف القواعد المطبقة في دور العرض. ناهيك عن السب والقذف والتراشق بالألفاظ، والأصابع والأكواب، والأحذية بين السادة المذيعين وضيوفهم ومهاتفيهم في برامج 'التوك توك شو' التي لم يسلم منها حتي تليفزيون الدولة هو الآخر. وأظن سيادتك تتذكر كم من مسرحية لكبار النجوم أُوقفت بسبب احتوائها علي ألفاظ خارجة وإيحاءات جنسية بالمخالفة للآداب العامة، وكم من راقصات شهيرات قبض عليهن بواسطة بوليس الآداب وهن في حالة تلبس ببدلة الرقص غير المطابقة للمواصفات المنصوص عليها. فلماذا أوقفت فيلم 'حلاوة روح' وتركت برنامج باسم يوسف؟! هل لأن باسم دكتور، والسبكي حايلا جزار؟! هل تري أن الدكتور عينيه خضرا ومش وش بهدلة، أما الجزار وعينيه زايغة ويستاهل اللي يجراله.. مثلًا يعني يا باشمهندس، دول واحد 'كيوت' والتاني 'مكبوت' وما أسخم من السبكي إلا باسم وكل من هم علي شاكلتيهما. ومش كل واحد عنده كام ألف 'فانز' ع الفيس بوك وتويتر هنعمل له قيمة، وإلا بلاها حكومة ونعمل 'بيدج' وبدل الوزرا نجيب 'أدمنز'. يا سيدي إن كان ما صنعته عدلًا فلتشمل الجميع بعدلك، وإن كان ظلمًا فارجع عنه في الحال، أو فلتخضع كل الرقاب تحت مقصلة الظلم بلا تفرقة، فالمساواة في الظلم عدل. يعني لو كان هناك قانون فليطبق علي الجميع بلا تمييز، ولا تحسيس، ولا تسييس. وبواسطة الموظفين المنوطين بالتنفيذ، وإلا علي رأي صديقي الكاتب الصحفي 'محمد السيسي': فلننتظر من دولتكم أن تحرر بنفسك مخالفات المرور، وإشغالات الطرق، وحل المشاكل العائلية بالمرة جزاك الله خيرًا. وبعد أن شبعنا لوم في السيد رئيس الوزراء، جاء دورنا جميعًا بما فينا جماعة الفن والفكر والإبداع. ماذا كنا ننتظر من الرجل أن يفعل إزاء عجزنا عن ترميم ما تهدم فينا من أفكار وقيم، وفَشَلِنا المتواصل في النهوض بصناعة السينما والمسرح والأغنية والإعلام، ومن قبلهم الأخلاق. دورة من العجز تعقبها أخري من الفشل.. وهلمَ جرَا، ومع كل دورة نتهاوي إلي أسفل ثم أسفل حتي أوشكنا علي القبوع في أسفل سافلين. فقدنا الشعور بمعني القيمة، وقيمة المعني. إستمرأنا البذاءة، واستنكرنا البراءة، وتجاوزنا في حواراتنا أبعد حدود الجراءة. تحولت لغتنا اليومية إلي شتائم أو جرائم لفظية وحركية، ومن يردد أن الفنون مرآة تعكس ثقافة وأخلاق المجتمع فهو مُدلِس ومُضَلِل، لأن الفنون أيضًا وسيلة للتحليق مع المُثُل الإنسانية في أعلي السماوات، والارتقاء فوق إلحاح الغرائز الحيوانية. كيف نرتضي التدني باسم الحرية؟ التدني يقود إلي الفوضي، والفوضي توهة وضياع ومسخ. كفانا تمسحًا في الغرب، فعلي سبيل المثال الغرب لا يحاسب علي الزني والشذوذ، لكنه يعاقب بل يزدري من يتفوه بالكذب أو بنصف الحقيقة، فهل نستجلب حرية الغرب في العلاقات الجنسية لنضمها إلي حريتنا في الكذب فنصبح شياطين بشرية مقززة؟ إن جميع الأشياء في هذا العالم تراكمية، ومنها الصفات والطبائع، فالأخلاق تراكمية والانحطاط تراكمي، وعلينا أن نختار من الآن لنعرف إلي أين نحن ذاهبون، ولنتذكر أنه لا شركة للنور مع الظلمة. وما وصلنا إليه أمر غاية في التعقيد، فنحن نعلن اشمئزازنا من الفيلم واعتراضنا عليه، وفي نفس اللحظة نرفض القرار بحظر عرضه بدعوي مبدأ حرية الفكر والإبداع. إنها مسألة عبثية تدعو للدهشة والانزعاج. أهو تخبط أم فصام؟؟! ومادمنا نحرص علي الحرية فِلمَ لا نطهر أنفسَنا بأنفسِنا لنستحق شرف أن نحيا أحرارًا؟ لماذا نصمت علي ما يفعله السفهاء منّا حتي تهبط علينا التحذيرات والتعليمات والعقوبات من فوق؟ ألم ننضج بما فيه الكفاية؟ يا أهل الفن.. تباكيكم علي زمن 'الفن الجميل' اعتراف صريح بأن ما تقدمونه هو 'القبح' بعينه، والساكت علي القبح يتساوي مع المشارك فيه. لن يعود الفن الجميل إلا بكم لو قررتم وتنازلتم وضحيتم من أجل مجد تاريخي تسطرونه للأجيال المقبلة. ولا يقتصر هذا علي عالم الفن، وإنما يجب علي كل المجالات، في التعليم والطب والصناعة والزراعة... فكما أن في كل خرابة عفريت، ففي كل مهنة سبكي، وفي كل سيرك باسم.