كل يوليو يحلو الكلام عن السينما وكيف تواصلت مع الثورة وروجت لها وتفاعلت مع أفكارها النهضوية. تلك الأفكار التي أفردت للسينما مساحة خاصة تعبر عن وعي بدورها في نهضة مجتمع أرادته الثورة محارباً بكل ماتحمله الكلمة من معني. ولأن السينما شأنها شأن الحياة تيار متدفق، متصل الظواهر، فقد تفاعلت مع مجمل العوامل.. الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية المحيطة، وصاغت نفسها بما يلائم التغيير. فكانت الأفلام في فترات زخم الثورة تعبر عن هذا المجتمع المحارب بأحلامه المتدفقة بلا حدود، فنجد ماجدة الصباحي تقدم فيلماً عن السد العالي 'الحقيقة العارية'، وفاتن حمامة التي اختارت الانضمام لصفوف الفدائيين بدلاً من "الجوازة المضمونة" في 'الباب المفتوح' ، ونادية لطفي مع سعاد حسني يتجاوزن العقد الاجتماعية ويحاولن أن يفعلن دورهن في مجتمع يسعي لفرد مساحة جديدة للمرأة 'للرجال فقط'، وشادية أو فؤادة التي واجهت الطاغية والطغيان في "شيء من الخوف" وحتي صباح قدمت نموذجاً لقيمة العمل والعمال في 'الأيدي الناعمة'.. وغيرهن كثر سواء أفلام أو نجمات لمرحلة كان نجومها أحمد مظهر وشكري سرحان وفريد شوقي ورشدي أباظة و... حتي عمر الشريف. كل ذلك ضمن نسيج متشابك مع زمن تبلور بناسه ورغباتهم في الطلوع. زمن كانت السينما تستنير بكتابات نجيب محفوظ وطه حسين ويوسف ادريس ولطفي الخولي و.. و. علي أي الأحوال لو وضعنا السينما في ظل يوليو علي طاولة التشريح، فإنه موضوع يفرد له دراسات وكتب، ولكن مايذهلني حتي الآن هو شغفي _وهو بالمناسبة يشاركني فيه كثيرون_ بمشاهدة أفلام زمن ربطتني به قناعة رومانسية بأنه كان الأفضل، وكلما شاهدت فيلماً من أفلامه أشعر بثقة أن لي دور في المجتمع لابد أن أفعله، ولكن حين أنظر حولي فلا أجد سوي عيون منكسرة، وتطالعني صورة البطل في السينما أنتبه الي زمني المختلف بقضاياه "الملخبطة". حيث هبت علي السينما أعنف موجة من التبدلات القيمية والتغييرات السياسية والاقتصادية العاصفة منذ مرحلة "البرزخ"، وهي المرحلة التي تعتبر جسراً بين قرنين، والتي تضم السنوات الخمس الأخيرة من القرن العشرين أكثر القرون زخما وإثارة في تاريخ البشرية، كما تضم الخمس سنوات الأولي من القرن الحادي والعشرين الذي بدأ بأعنف موجة من التبدلات القيمية والتغيرات السياسية والاقتصادية العاصفة، بحيث يمكن القول أن هذه السنوات هي الجسر الفاصل بين عالمين مختلفين، وليس بين قرنين وفقط. بدأت ب"موجة أفلام الشباب" وانتهت إلي خلطة الحب والسياسة والعشوائيات، و لأنه حسب تعبير الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل "ليس هناك أقوي من فكرة آن آوانها"، فإنه حين آن آوان السينما المصرية لإنتقالها لمرحلة جديدة لم يساهم فيها صناع السينما المحليين، ولا النقاد، ولا الدولة المضغوطة بعنف تحت ثقل المتغيرات العالمية، بقدر ما ساهمت في هذه النقلة سياسات وممارسات محلية وكونية هي بنت الزمن واللحظة، ولم تكن مجرد صدفة عمياء أو ضربة حظ، ظاهرة التوسع في دور العرض السينمائي والتحسن المذهل الذي طرأ علي معدات الصوت والتصوير وماكينات العرض، أوتصميمات الدعاية، وثقافة التلقي التي خرجت بمشاهد السينما الجديدة من محراب دار العرض الواحدة المهيبة إلي زحام "المول" ومطاردته بإلحاح التسوق والتشتت الإعلاني، والإختيارات الجاهزة والسهلة المستمدة من زمن "الأوبشن" حسب لغة الكومبيوتر.. اللحظة التاريخية كلها ضد القديم المعلوم الذي استنفذ أغراضه، ومع الجديد المجهول، وبصرف النظر عن أهدافه وقيمته الحقيقية، فلا مكان للأفكار 'الأيديولوجيا' ، لأن الصورة أصبحت هي الأساس، ولا مكان للمضمون لأن الشكل أصبح هو "السيد" وهو "الرسالة المبتغاة"، ولامكان للوطن بعد أن أصبح "الكون هو الكينونة"، وبعد أن أصبحت "العولمة هي العلم"، وتلاشت الحدود، وتحطمت الأنساق، وانفجرت البني، وماتت السرديات الكبري، وتاهت المعاني، وأصبحنا نعيش في زمن الإجتزاء و"الاسكتش" والقصاصات المبعثرة، وليست مصادفة أن يرتبط ذلك كله بالفيديو، حتي يمكنك أن تقول وأنت مرتاح الضمير أننا نعيش في "حضارة الفيديو كليب". [email protected]