خطآن جسيمان يصبَّان في مصلحة الأخوان المسلمين وقعا، وكان لوقعهما دويًا هائلاً. أولهما: قانون التظاهر وتطبيقاته الغاشمة، وهو خطأ حكومة قلقة، شائخة، وضعيفة، وثانيهما الحكم الجائر علي فتيات الأخوان المسلمين بالإسكندرية من قبل قضاة خلطوا القانون بالسياسة. '1' بالنسبة لقانون التظاهر، فقد كان المأمول مني ومن غيري أن يكون هذا القانون قانونًا إجرائيًا بحتًا، يعمل فقط علي تنظيم حق التظاهر وتوضيح الخطوات والشروط المطلوبة التي تكفل سلميته، بمعني أنه يتضمن الإجابة علي أسئلة من نوعية: كيف يمكن توفير حماية حقيقية للمتظاهرين؟.. ما هي أساليب ضمان سلمية أية مظاهرة؟.. ما التصرف إذا تزامنت مظاهرتان متضادتان في ذات المكان والزمان؟.. بأية وسائل يمكن الجمع بين حرية التظاهر وعدم التأثير السلبي علي المرافق العامة، ودرء مخاطر قطع الطرق وعرقلة سيولة المرور، والحيلولة دون تعطيل المواصلات أو الاعتداء علي الأفراد والمنشآت والممتلكات الخاصة والعامة وغيرها؟.. لكنه جاء قانونًا قمعيًا، وبدلاً من أن يكون قانونًا لتنظيم حق التظاهر أصبح قانونًا لتقييد التظاهر، بل لتجريمه. كان هذا هو المأمول، أما فيما يتعلق بالعنف المسلح وغير المسلح فقانون العقوبات فيه الكفاية ويزيد.وعجيب العجيب أن القانون رتب حقوقا لجهاز الشرطة تكفل له استخدام العنف تجاه المشتركين في المواكب والاجتماعات العامة والمظاهرات اعتمادًا علي النوايا'!'.. هل تُبني القوانين علي النوايا أم علي الأدلة والقرائن والبراهين؟.. الاعتراضات علي القانون كثيرة والمعترضون كثيرون، ومعروف ومنشور أن المجلس القومي لحقوق الإنسان أخذ علي هذا القانون وقت أن كان مشروعًا 14 ملحوظة لم يؤخذ بها. باختصار شديد، هذا القانون لا يصلح بنصه الحالي، ولا بد من إخضاعه للتعديل، وما أكثر المواضع التي تستوجب التعديل، فلا يجب أن تؤسس عقوبات والعقوبات لها قانون العقوبات علي النوايا، ولا يصح في قانون يفترض أنه ما سن إلا لمصلحة الشعب، أن ينحاز للشرطة والسلطة ضد الشعب، وأن يحتشد بشروط مجحفة لعل من أهمها حظره لأحد أهم أشكال الاحتجاج وهو الاعتصام، وعدم تحديده لنوعيات الأسلحة المحظور حملها حتي أن عصاة مثبة إليها لافتة يمكن أن تعد سلاحًا، وكذا تغليظ العقوبات وتضييق أماكن التظاهر ووهم إمكان التحكم في أعداد المتظاهرين. ولا تتوقف الخطورة عند الصياغة والإقرار، وإنما تتعداها إلي التطبيق وردود الأفعال، فالتطبيق مرتبك.. متشدد تارة وغائب أخري. التشدد برهنت عليه أحداث يوم 26 نوفمبر الحالي، مع أول تطبيق له. كان التطبيق مفاجئًا في تعجله وشدة عنفه واستهدافه لنشطاء سياسيين من المنتمين للقوي اليسارية. حدث هذا أمام مجلس الشوري ونقابة الصحفيين وفي ميدان طلعت حرب. أما الغياب فتحقق اليوم الجمعة 29 نوفمبر في محافظات شتي أخص منها محافظتي بورسعيد، فقد خرجت من مسجد محمد السيد بمنطقة الحرية السكنية، عقب صلاة الجمعة مظاهرة متوقعة من الأخوان المسلمين ومؤيديهم، مظاهرة لا يصح وصفها بالصغيرة، سارت متحدية قانون التظاهر دون أي اعتراض شرطي. طبعًا المواطنون قارنوا بين العنف المفرط الذي مورس ضد النشطاء اليساريين والليبرالين وبين التراخي المفرط تجاه الأخوان المسلمين. ردود الأفعال جاءت سريعة جدًا وواضحة جدًا، ترجمتها في كلمة واحدة هي 'الاستياء'. استياء عامة الشعب، استياء فرَّق القوي الثورية ما بين منتقد ومؤيد، وناظر باتجاه الأخوان المسلمين ومعاضديهم المسارعين بالشماتة من جماهير 30 يونيه 'ألستم من فوض هؤلاء؟'. إن كان الشامتون قد نسوا أو تناسوا، نذكرهم بقانون تنظيم التظاهر الذي سنته حكومة هشام قنديل الأخوانية، فهو إن لم يتساو وقانون حكومة حازم الببلاوي فإنه يتفوق عليه في السوء، فعلاقات النسب بينهما موصولة، والجينات تكاد تكون هي هي، إلا أنها في قانون قنديل أكثر شراسة. ونذكرهم أيضًا بموقف الشعب المصري كله حيال قانونهم، ونقول لهم أنتم الأسبق والأكثر عداء للحرية. ولحكومة الببلاوي نقول: إياك أيتها الحكومة والتغافل عن حقيقة أن تقييد حقوق الشعب في الاحتجاج والتظاهر والاعتصام من أهم أسباب قيام الثورات. '2' يحار المرء للحكم الذي أصدرته محكمة جنح سيدي جابر بالإسكندرية علي 14 فتاة أخوانية أو مناصرات للأخوان، أعضاء 'حركة 7 الصبح'، بالحبس أحد عشر عامًا وشهرًا لكل واحدة منهن، لقاء مجموعة من التهم هي: التجمهر وقطع الطرق والبلطجة والاتلاف العمدي وحيازة أدوات والاعتداء علي المواطنين خلال تظاهرهن بمنطقة ستانلي شرق الإسكندرية، وهذه التهم ذاتها وجهت لسبع قاصرات كن معهن أودعتهن محكمة الطفل دارًا للأحداث، بالإضافة إلي الحكم علي ستة ذكور هاربين بخمس عشرة عامًا. يحار المرء لأن العامة تعرف أن أقصي حد للعقوبة التي توقعها محاكم الجنح بالحبس هو 3 سنوات، فما بال حكم هذه المحكمة قد بلغ الحد سالف الذكر؟.. ما بالها اعتبرت لكل تهمة عقوبة؟ سؤلان يفرضان نفسيهما ها هنا. هل يمكن إصدار أحكام بالجملة؟.. ألا تجمع بين هذا الحكم الجائر بحق الصادر في عهد ما بعد ثورة 30 يونيه 2013م، والحكم علي متهمي واقعة ستاد بورسعيد الرياضي الصادر في عهد ما قبل هذه الثورة، قواسم مشتركة منها: الحكم جملة وليس لكل متهم علي حدة، والخضوع للظرف السياسي الضاغط، أو بالأصح مغازلة السلطة السياسية القائمة والانتصار لها؟.. لقد هز الحكم مصر كلها. هزَّ مناهضي الأخوان المسلمين قبل الأخوان المسلمين، فهو خكم صادم بقسوته، وصادر بحق فتيات في عمر الزهور التي لم تتفتح عن أكمامها بعد، وأغلبهن طالبات في مرحلة التعليم الثانوي.. طبيعي أن يستفز الحكم مصر العادلة المنصفة ولو لفصيل لا يؤمن بها وطنًا، وطبيعي أن تحدث مقارنات بين قسوة هذا الحكم واللين الذي عومل به أباطرة الفساد والاستبداد وقتلة الشهداء. طبعا هو حكم أول درجة، وبعده استئناف ونقض، لكن المواطنين تطلعوا فور النطق به صوب رئيس الجمهورية المؤقت المستشار عدلي منصور، وفي أذهانهم عفو مبارك عن الصحفي إبراهيم عيسي، لكن القانونيين رددوا ما قاله الفقيه الدستوري محمد نور فرحات ومفاد قوله إن العفو لا يكون إلا عن عقوبة صدر بها حكم نهائي واجب النفاذ، بمعني أن هناك استئناف وطعن قد يُلغي الحكم في أيهما.. وجاء تصريح مستشارة الرئيس السيدة سكينة فؤاد ليؤيد هذه المعلومة، إذ قالت إن الرئيس المؤقت ينتظر انتهاء إجراءات التقاضي للعفو عنهن طبقا لما ينص عليه القانون المصري. أيًا كانت أسباب هذا الحكم القاسي ومبرراته فإنه كان من الممكن النظر إلي هاتيك المتهمات اللائي بالكاد غادرن مرحلة الطفولة بأيام أو شهور باعتبارهن ضحايا التغرير، وهن بالفعل مغرر بهن. إن هذا الحكم الذي صدر في ظل نظام ما بعد ثورة 30 يونيه، وسابقه الصادر بحق متهمي ستاد بورسعيد الرياضي في ظل نظام حكم الأخوان، يظهران بجلاء عيوب إخضاع القضاء للسياسة. القضاء هو ضمانة السلام الاجتماعي، وهو مستقل لكي يوفر هذه الضمانة، أما تحويله لخدمة النظم الحاكمة فهو التردي وهو الكارثة. ننتظر الاطلاع علي حيثيات الحكم، وننتظر العفو عنهن جميعًا، مثلما ننتظر إعادة محاكمة متهمي قضية ستاد بورسعيد الرياضي محاكمة عادلة بحق. أما حكومة الببلاوي فعليها أن تسلك سبيل الرشادة، وإلا 'مع السلامة'.