في الوقت الذي تقلصت فيه ظروف العمل في بعض البلاد العربية بالخليج لظروف متعددة أصبح السفر لأوروبا وأمريكا واستراليا هو حلم المهاجرين المنشود في بلادنا العربية والأفريقية وغيرها من دول العالم الفقيرة بعد أن تراجعت في كل تلك البلدان فرص العمل لظروف سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية وغيرها، وفي ظل تشدد الدول الأوروبية تجاه الهجرة انتهجت قوانين صارمة وموحدة مع صعوبة إصدار التأشيرات بكل أنواعها وفي ظل المراقبة المتطورة لحدود هذه الدول وإغلاقها منافذ الهجرة لم يملك الشباب المهاجر من تلك البلدان ومنها شباب بلداننا العربية والأفريقية طريقا للوصول إلي تلك البلدان غير التعامل مع مافيا التهريب عبر المتوسط وبحار أخري من خلال مراكب غير صالحة للملاحة وتتجاوز الحمولة القانونية ناهيك عن إبحارها من منافذ حدودية مجهولة وتسلك طرقا بحرية خطرة، ورغم ذلك تتغير دوما نقاط الإبحار بالمدن التي تقع علي ضفة البحر المتوسط بسبب ملاحقة حرس السواحل لها وأكثر رحلات الإبحار للمهاجرين عادة ما تكون إلي تركيا واليونان عبر بحر إيجا أو إيطاليا مرورا بصقلية ووصولا إلي جزيرة لامبيدوزا بإيطاليا واجتياز المحيط الهندي من إندونيسيا وصولا إلي استراليا وقد شهدت الهجرة غير الشرعية مؤخرا تزايدا كبيرا وبخاصة في بلدان الربيع العربي منذ عام 2011 بسبب تفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية في تلك الدول وانعدام الأمل لدي الشباب العاطل في تحقيق الحد الأدني من ظروفه الاقتصادية والمعيشية وأبواب الهجرة ومنح التأشيرات بعيدة المنال ولهذا يصبح طرق أبواب الهجرة غير الشرعية والموت غرقا أهون من البقاء في تلك الأوطان، فخلال تلك الرحلات المحفوفة بالمخاطر ومآسيها الكارثية المتكررة للمهاجرين فمنهم من يقضي نحبه في البحر غرقا ومنهم من ينجو ويصل إلي الشاطئ وكثيرا ما يجدوا الإنتربول وحرس الحدود في انتظارهم ويتم إعادتهم من حيث أتوا فيكرروا الكرة مرة أخري. ووفقا لإحصائية دورية قضي منذ عام 1992 أكثر من ستة آلاف مهاجر أكثرهم لقي حتفه في مضيق جزيرة صقلية ومن الظواهر الملفتة للنظر أن كثير من هؤلاء المهاجرين من القصر وعادة ما يتم إيداعهم في أحد مراكز رعاية القصر في إيطاليا وفقا للقانون الإيطالي بعكس البالغين الذين بمجرد التعرف عليهم إلا ويتم ترحيلهم إلي بلدانهم، كما يعتبر العام 2011 هو الأسوأ كارثيا بعد أن لقي فيه أكثر من 1800 شخص حتفه غرقا، ومؤخرا قد شهد الأسبوع المنصرم حادثة مروعة فقد فيها 300 شخص حتفهم أكثرهم من الصوماليين والارتريين بعد أن غرقت سفينتهم علي عمق يزيد علي الخمسين متر بالقرب من جزيرة لامبيدوزا الإيطالية بعد أن تم إنقاذ أكثر من مائتين منهم وقد شهد العقدين الأخيرين كثافة الهجرة غير الشرعية من هذين البلدين بسبب استمرار الحرب الأهلية والإرهاب، وموجات الجفاف التي تضرب البلاد ولهذا يهرب أكثر من ثلاثة آلاف ارتري شهريا إلي السودان وأثيوبيا ومن قبلها سفينة بالقرب من جزيرة صقلية، ولم تقتصر هذه الحوادث مؤخرا باتجاه القارة الأوربية فقط عندما قتل عشرات المهاجرين غير الشرعيين بينهم لبنانيون أغلبهم من منطقة عكار الفقيرة بشمال لبنان عندما غرقت عبارتهم في بحر سينا جور باندونيسيا وكانوا في طريقهم إلي استراليا في أواخر شهر سبتمبر الماضي، ومؤخرا يوم الجمعة الماضي غرق سفينة مصرية صغيرة أخري تسمي أبو عثمان بسواحل الإسكندرية لقي فيها 12 شخص حتفهم وتم إنقاذ الباقين وكان أكثرهم من الفلسطينيين والسوريين من خلال القوات البحرية المصرية بحرس السواحل البالغ عددهم أكثر من مائة علي الأقل. لقد أصبح حلم الهجرة غير الشرعية يرافق يوميات الكثير من أبناء البلدان الفقيرة ليأسهم من تغيير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تزداد سوءا فتأتي هجرتهم إلي تلك البلدان وسعيهم إلي غدا أفضل واستغلال البعض منهم بسبب الظروف السياسية للحصول علي حق اللجوء السياسي في تلك الدول.إن ما يؤلم في تلك الكوارث هو زيادة عدد الهجرة غير الشرعية بعد الثورات العربية لشباب المهاجرين وهو ما لم يكن متوقعا وبخاصة أن الشباب كان هو البطل والمحرك الرئيسي لنجاح تلك الثورات لتمرده علي الأنظمة الفاسدة التي كانت وراء تردي الأوضاع في تلك البلدان، إلا أن تلك الثورات ورغم نجاحها في تغيير الأنظمة لم تستطع أن تغير من الأوضاع الاقتصادية المتردية وارتفاع نسبة البطالة بين الشباب وطول المرحلة الانتقالية التي أدت إلي اليأس والإحباط ونفاذ الصبر من تغيير الحال مما دفع بالكثير من شباب بلداننا إلي الرحيل وتفضيل الموت علي البقاء في الأوطان يحدث ذلك دوما وحكومات بلداننا مازالت تعقد الاجتماعات والندوات لتسمع وتري في الوقت الذي مازلنا فيه نستقبل ضحايا الهجرة الذين لا يخلفون وراءهم إلا الآلام والأوجاع، والصادم في هذا أن الدول الأوروبية وغيرها من دول الهجرة تهتم بتلك الظاهرة ولا تتواري في عقد المؤتمرات الجدية الهامة لسعيها لإيجاد حلا لعلاجها ونحن في بلادنا لم نتصدي لها يوما لنعالجها بشكل جاد وظلت محل ندوات ودراسات عادة ما تنتهي بالتجمهر حول موائد الطعام وتوصيات تظل حبرا علي ورق يتوارثها المسئولون فيما بينهم، في حين أن فصول تلك التراجيديا مازالت تتوالي وترخي بسدولها وقتامتها علينا لأنها تأتي علي شبابنا الذين يموتون علي هذا النحو بما يتعارض مع القيم وأبسط الحقوق الإنسانية كما أنها تسوء إلي سمعتنا بالعالم الخارجي وتزيد أيضا من حالة الحزن والضغينة في داخل تلك البلدان وبخاصة عند أسر وأقارب الضحايا، كما أننا ومع فقدانهم وعلي هذآ النحو المفجع نفقد اهم ثروة نمتلكها ثروة لو أحسن استغلالها واحترامها لجعل منها طاقه فذة وفاعلة ومعطاءة في شتي المجالات وهو ما يمكن لو حدث أن ينعكس علي قوة ازدهار التنمية البشرية والاقتصادية وغيرها في بلادنا، فمتي يأتي الجادين من رموزنا وساساتنا ليوقفا فصول تلك المأساة التي حصدت معها الكثير من أفضل شبابنا.