التصوف يعنى الإحسان فى كل صوره، وهو فوق العدل وأسمى منه وأرفع، فالشريعة تأمر بالعدل والإحسان، والتصوف يأمر بالإحسان ويُلزم به، ومن لم يكن محسناً فليس متصوفاً على الحقيقة. فقد سأل ابن بشار، وهو أحد الفقهاء، الشبلى تلميذ الجنيد وأحد أئمة التصوف: كم زكاة خمس من الإبل؟ قال: فى الشرع شاه وفيما يلزم أمثالنا التصدق بها جميعاً، فقال له: ألك فى ذلك إمام يُقتدى به؟ قال الشبلى: نعم، سيدنا أبوبكر الصديق فقد جاء بكل ما يملك وقدمه إلى رسول الله «صلى الله عليه وسلم»، فقال له الرسول: ماذا أبقيت لأولادك؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله. وعندما يصل العبد إلى مرتبة الإحسان يُحسِن في قصده وتوجهه لله، فيجعل توجهه وإقباله تابعًا لأمر الشرع المعظم، مخلصًا لله في عمله كله، صافيًا من الأكدار في معاملاته، ويعمل جاهدًا على حفظ أحواله مع الله، ويصونها بدوام الوفاء، وتجنّب الجفاء، والانقياد للهدى، فيتعلق همه بالحق وحده، ولا تتعلق همته بأحد سواه، فيهاجر إلى ربه ومولاه، وما أجمل الهجرة إلى الله في زمن ضل كثير من الناس فيها عن سواء السبيل، وإن الهجرة إلى الله سبحانه بالتوحيد والإيمان، والإخلاص والإنابة، والمحبة والذل، والخوف والرجاء، والعبودية، من أعلى درجات الإحسان، والهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بالإيمان به، ومحبته، وطاعته، وتحكيمه، والتسليم والتفويض والانقياد لحكمه، وتلقي الأحكام من مشكاته، لمن منازل الإحسان. إن العبد المحسن يراقب ربه في أداء العبادة، ويستحضر قربه منه حتى كأنه يراه، فإن شقَّ عليه ذلك، فليستعن على تحقيق الإحسان بإيمانه بأن الله يراه، ويطلع على سره وعلانيته، وباطنه وظاهره، ولا يخفى عليه شيء من أمره. والعبد الذي بلغ هذه المنزلة يعبد ربه مخلصًا، لا يلتفت إلى أحد سواه، فلا ينتظر ثناء الناس، ولا يخشى ذمهم، إذ حسبه أن يرضى عنه ربه، ويحمده مولاه، فهو إنسان تساوت علانيته وسرّه، فهو عابد لربه في الخلوة والجلوة، موقن تمام اليقين أن الله مطلع على ما يكنّه قلبه، وتوسوس به نفسه، فقد هيمن الإيمان على قلبه، واستشعر رقابة ربه عليه، فاستسلمت جوارحه لبارئها، فلا يعمل بها من العمل إلا ما يحبه الله ويرضاه، فهو مستسلم لربه، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]. وقال تبارك وتعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34 - 35]، وقد رغَّب الله عباده في الإحسان فقال جل وعلا: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]. وكلما كان العبد أكثر إحسانًا إلى نفسه وإلى غيره كان أقرب إلى رحمة الله، وكان ربه قريبًا منه برحمته، كما قال سبحانه: {إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]. ومن لم يكن محباً لله سبحانه بحق وصدق وتجرد فلم يعرف التصوف بحق. ومن أبرز معانى الحب الحقيقى لله سبحانه استقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل من ربك، وتعنى كذلك «تقديم مراد الله على مراد نفسك، وأن تهب كلك لربك فلا يبقى لك منه شىء، وتميل إلى ربك بكليتك، وإيثارك لله سبحانه على نفسك وروحك ومالك، وموافقتك لله سراً وجهراً». وعرف الإمام الشاذلى المحبة فقال: «المحبة آخذة من قلب عبده كل شىء سواه، فترى النفس مائلة لطاعته والعقل متحصناً بمعرفته، والروح مأخوذة فى حضرته، والعبد يستزيد فيزاد». ومن لوازم هذه المحبة ألا ينتقم المرء لنفسه، ولا يرى ذاته أو يدور حولها، ولا يجعل منها صنماً يقدسه ويعادى ويوالى عليه، بل يهضم ذاته وجاهه فى الله. فإذا رأيت الرجل يغضب لنفسه وينتقم لها، ويدور حولها ولا يعفو ولا يصفح، أو يكره المؤمنين والصالحين أو مجمل الناس، أو يتطاول على منافسيه أو يحقد على أقرانه، فاعلم أن التصوف الحق لم يقترب يوماً من قلبه، ولم تتشربه نفسه يوماً ما. فمحبة الله إن لم تترجمها الجوارح إلى أخلاق فاضلة، فاعلم أنها دعوى كاذبة لا دليل لها. وأجمل ما قيل فى وصف الصوفيين بحق «نزلت نفوسهم منهم فى البلاء كالذى نزلت فى الرخاء ولولا الأجل الذى كتبه الله عليهم لطارت أرواحهم شوقاً إلى ربهم». ويعنى التصوف أيضاً «شعورك الدائم بالتقصير فى جنب الله، أو أن تعيش مع الحق سبحانه بغير الخلق»، أو كما عرّفه الجنيد: «إذا تكلم العبد فبالله، وإن تحرك فبأمر الله، وإذا سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله». كاتب المقال إمام مسجد سيدي عبد الرحيم القنائي