اوباما تدور الآن علي الساحة الأمريكية جهود ومساع مكثفة لاحتواء الأزمة مع اسرائيل، والتي اشتعلت نتيجة الإعلان الإسرائيلي الفج والمتبجح عن التوسع في المستوطنات بالقدسالشرقية، خلال زيارة نائب الرئيس الأمريكي »جو بايدن« لإسرائيل ،...، وهو ما اعتبرته الولاياتالمتحدة صفعة قوية وإهانة مباشرة وغير متوقعة من حليفتها المدللة دائما إسرائيل. ويخطيء من يتصور إمكانية سماح أحد الطرفين الأمريكي، أو الإسرائيلي، بانفلات هذه الأزمة وخروجها عن نطاق السيطرة بما يؤدي إلي تصدع أو شرخ حقيقي وجسيم بين الجانبين، يؤثر بالسلب علي الارتباط الوثيق بينهما، أو يخفض من سقف الدعم غير المحدود من جانب الولاياتالمتحدة لإسرائيل ومساندتها المستمرة لها علي كل المستويات وفي كل المحافل. نقول ذلك بوضوح رغم الحدة البالغة التي اتسمت بها ردود الأفعال الأمريكية، خلال الأيام الماضية، ردا علي الإهانة الإسرائيلية، والتي بدا واضحا أنها مقصودة ومستهدفة في الشكل والمضمون، مع سبق الاصرار والترصد، تحمل في طياتها رسالة مزدوجة، تؤدي في شقها الأول لعرقلة وفشل المساعي المبذولة لإعادة إحياء وتحريك عملية السلام، وتؤكد في شقها الآخر للفلسطينيين والعرب وأمريكا والعالم ان إسرائيل لن تتوقف أبدا عن بناء المستوطنات أو التوسع فيها، وانه لا تنازل عن القدس ولا مفاوضة حولها. ونقول ذلك بوضوح انطلاقا من القراءة الموضوعية والصحيحة لواقع الحال الذي يؤكد الضعف الشديد الذي أصاب الإدارة الأمريكية برئاسة أوباما تجاه إسرائيل، وعدم قدرتها علي دفع إسرائيل للسير علي طريق السلام، أو الاستجابة للنداءات المتعددة والمتكررة في هذا الشأن، ثم استسلامها الواضح لرفض نتنياهو وحكومته المتطرفة لحل الدولتين ورفضه أيضاً لوقف بناء المستوطنات. ونقول ذلك بالرغم من ادراكنا لموجة التفاؤل المشبعة بالنوايا والآمال التي انتابت الكثيرين في عالمنا العربي وهم يتابعون الانتفاضة الأمريكية بعد الصفعة الإسرائيلية وتصوروا أن هناك نوبة إفاقة وصحيان أمريكي، وأننا سوف نشهد ضغطا أمريكيا قويا ومتواصلا علي إسرائيل حتي تنصاع إلي المطالب العادلة لتحقيق السلام، وتعلن موافقتها غير المشروطة علي حل الدولتين والوقف الفوري للمستوطنات. ونحن هنا نؤكد ان ذلك يدخل في باب الأمنيات صعبة التحقيق، طالما استمر الضعف الفلسطيني والتشتت والفرقة الفلسطينية علي ما هي عليه الآن، وطالما بقي غياب التأثير وغيبة القوة العربية علي ما هي عليه أيضا،...، وطالما ظل العزوف العربي عن التوظيف والاستخدام الجيد لجميع القدرات والامكانات العربية لخدمة القضايا العربية العادلة والمشروعة، ودفع الولاياتالمتحدة لوضع مصالحها مع العالم العربي موضع التقدير والاعتبار.
وإذا ما أردنا ادراك مدي صحة ما نقوله علي أرض الواقع، علينا ان نتأمل فيما أكدته وزيرة الخارجية الأمريكية »هيلاري كلينتون«، يوم الثلاثاء الماضي، وبعد ثلاثة أيام فقط من تفجر واشتعال الأزمة، حيث أكدت ان بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل رباطا وثيقا لا انفصام له، وان الولاياتالمتحدة لديها التزام مطلق بأمن إسرائيل. وقد اعتبر جميع المراقبين والمتابعين للأزمة، تلك التصريحات، ومن كلينتون بالذات، تمثل تراجعا عن اللهجة المتشددة من المسئولين الأمريكيين، تجاه إسرائيل، بعد إعلانها عن توسعة المستوطنات بالقدسالشرقية، الذي تزامن الإعلان عنه مع زيارة »بايدن« لإسرائيل، وهو الإعلان الذي دفع كلينتون للقول بأن الموقف والتصرف الإسرائيلي هو إهانة للولايات المتحدةالأمريكية. وفي إطار التراجعات أيضا، أكدت كلينتون رفضها لما قاله البعض بأن العلاقات الأمريكية الإسرائيلية تمر بأسوأ أزمة منذ عقود، وقالت ردا علي ذلك، أن هناك اتفاقا بين البلدين في الإيمان بقيم مشتركة، والتزام بمستقبل ديمقراطي، ولكن ذلك لا يعني الاتفاق في كل شيء،...، وهي في ذلك كانت تقصد المستوطنات. وفي نفس المسار، وعلي نفس الخط، قال وزير الخارجية الإسرائيلي »ليبرمان«، ان الأزمة مع الولاياتالمتحدة سيتم تجاوزها، وأكد ان استمرار هذه الأزمة ليس في صالح الطرفين. وفي نفس الإطار، جاءت تصريحات وتدخلات اللوبي اليهودي المناصر بالضرورة لإسرائيل، وكذلك أيضا مجموعات الضغط الأمريكي المؤيدة للحليفة المدللة، لتصب في نفس التوجه، والدعوة لوقف التصعيد، وتضييق هوة الخلاف، ومعالجة الموقف، والتأكيد علي حتمية وضرورة رأب الخلاف الناشئ بين إدارة أوباما، وحكومة نتنياهو.
وأحسب انه من المهم ان نقول في هذا الشأن ان هذه الأزمة ليست الأولي في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية فقد سبقتها أزمات وستتلولها أيضا أزمات أو خلافات شديدة وملتهبة، تتطور إلي أزمات إذا ما اقترنت بأفعال وتصرفات إسرائيلية اعتبرتها الولاياتالمتحدة لا تتوافق مع مصالحها، أو تضر بهذه المصالح. ولعل الأكثر قربا للأذهان هي الأزمة التي نشبت بين البلدين، خلال وجود الرئيس بيل كلينتون بالبيت الأبيض، ووجود نتنياهو رئيسا لوزراء إسرائيل، والتي وصلت إلي طريق شبه مسدود وتصاعدت بشكل حاد، وانتهت بخسارة نتنياهو لموقعه كرئيس لوزراء إسرائيل،...، ،...، وكل المعطيات علي أرض الواقع تشير إلي ان ذلك ليس قابلا للتكرار، في ظل ما نراه وما هو قائم الآن رغم الحدة والاشتعال الذي وصلت إليه الأزمة الحالية، وتصاعدها السريع. ومن المؤكد أن هذا التصاعد وذلك الاشتعال هو الذي دفع بالكثيرين من العرب والفلسطينيين للتصور أو الأمل في مواجهة حامية وحاسمة بين الإدارة الأمريكية ونتنياهو، تنتهي بقبول رئيس الوزراء الإسرائيلي لاستحقاقات السلام.
وفي هذا الإطار جاء تصور البعض، وأملهم بأن العلاقات الأمريكية الإسرائيلية تمر، بأسوأ صورها، وأكثرها تدهورا، في ظل الأزمة المشتعلة بين إدارة الرئيس أوباما، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وحكومته المتطرفة، نتيجة الصلف، والتعنت، وتضخم الذات، الذي أصاب الحكومة الصهيونية، ودفع بها إلي الاستهزاء بالولاياتالمتحدةالأمريكية، ورفض مطالبها المتعددة، والمتكررة، لوقف عمليات الاستيطان، وتهيئة المناخ اللازم لاستئناف محادثات السلام المتوقفة مع الفلسطينيين نتيجة الممارسات العدوانية المستمرة من جانب سلطة الاحتلال. وقد تابع هؤلاء كيف تفجرت الأزمة في ظل الغرور الإسرائيلي الضخم، وخروجه عن نطاق السيطرة، مما دفع بالحكومة الإسرائيلية المتطرفة إلي اختيار لحظة زيارة نائب الرئيس الأمريكي »جو بايدن« لإسرائيل، والسلطة الفلسطينية في الأراضي المحتلة، للإعلان عن البدء في بناء »0061« مسكن جديد في القدسالشرقية، ضاربة عرض الحائط بالنداءات الأمريكية المتعددة لوقف الاستيطان أو تجميده. وكان لذلك الإعلان بما يحمله من وقاحة وتبجح، وما ينم عنه من الاستهانة الكاملة بالدولة الأقوي، والأعظم في عالم اليوم، والتي هي في ذات الوقت السند الدائم، والداعم الأقوي للدولة الصهيونية، وقع الصاعقة علي الإدارة الأمريكية، التي لم تكن تتصور تعرضها لمثل هذه الصفعة من ربيبتها المدللة إسرائيل، وهو ما مثل إهانة بالغة للجانب الأمريكي، خاصة أن المستهدف بالإهانة، هو الرئيس أوباما، في شخص نائبه »بايدن« الذي بعث به إلي المنطقة للإعلان عن اهتمامه بتحريك عملية السلام، وإعادة إحيائها بعد النفق المظلم الذي دخلت فيه، منذ وصول نتنياهو إلي السلطة ورئاسة الوزارة.
ولم تخف الإدارة الأمريكية غضبها الشديد، واستياءها البالغ من التصرف الإسرائيلي بالغ الوقاحة، حيث أعلن نائب الرئيس الأمريكي إدانته للقرار الإسرائيلي، وأكد ان الولاياتالمتحدة ملتزمة بموقفها المسبق برفض الاستيطان، باعتباره يقوض الثقة في جدية السعي للسلام. ولم يتوقف رد الفعل الأمريكي عند ذلك، بل تصاعد بصورة متسارعة، حيث أعلن المتحدث باسم البيت الأبيض الاستياء البالغ للإدارة الأمريكية، والرئيس أوباما من القرار الإسرائيلي، الذي لا يبعث علي الارتياح، ولا يساعد علي تهيئة المناخ اللازم لاستئناف المفاوضات، وتحريك عملية السلام،..، ثم أكد المتحدث مجددا الموقف الأمريكي الرافض للمستوطنات، في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ولكن الغضب الأمريكي لم يقتصر علي ذلك، بل واصل تصاعده، واتسعت رقعته، وزاد اشتعاله في إعلان البيت الأبيض عن اتصال غاضب، وبالغ السخونة، من جانب وزيرة الخارجية الأمريكية »هيلاري كلينتون« برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تم خلاله التعبير الحاد جدا، عن الاستياء الأمريكي البالغ، من التصرف الإسرائيلي، وإعلان حكومة نتنياهو المرفوض والفج عن الاستمرار والتوسع في بناء المستوطنات بالقدس العربية، وحرص المتحدث باسم البيت الأبيض علي التأكيد علي الانتقادات الحادة التي وجهتها وزيرة الخارجية كلينتون إلي رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو وإعلان حكومته عن خطة التوسع الاستيطاني بالقدسالمحتلة خلال زيارة »جوزيف بايدن« نائب الرئيس الأمريكي للمنطقة، معتبرة ان القرار وتوقيته هو إهانة لأمريكا، كما حرص المتحدث أيضا علي التأكيد علي ابلاغ كلينتون لنتنياهو عن خيبة أملها من القرار الإسرائيلي، الذي يمثل إشارة سلبية للغاية. وفي ذات الإطار أعلنت هيلاري كلينتون لوسائل الإعلام، وفي تصريحات خاصة لشبكة »سي إن إن« الأمريكية ان الولاياتالمتحدة تشعر بالإهانة، بعد إعلان إسرائيل عن بناء »0061« وحدة سكنية، خلال زيارة نائب الرئيس الأمريكي »جوزيف بايدن« لإسرائيل. وأكدت كلينتون ان الاعتراض الأمريكي لا ينصب فقط علي توقيت الإعلان عن خطط الاستيطان الإسرائيلية الجديدة، ولكن علي جوهر الاجراءات الإسرائيلية ذاتها، في الوقت الذي تسعي وتعمل الإدارة الأمريكية، علي استئناف عملية المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، علي أساس حل الدولتين، الذي تتمسك به الولاياتالمتحدة، بما يعني قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، والقابلة للحياة، طبقا لما نادي به الرئيس أوباما. وعلي نفس المسار الساخن، والملتهب، أكدت عدة مصادر في البيت الأبيض، ووزارة الخارجية الأمريكية، ان الوزيرة كلينتون حددت عدة مطالب أمريكية خلال اتصالها بنتنياهو، وطلبت إجابات واضحة من إسرائيل عليها، وان واشنطن تنتظر هذه الإجابات. وقد دفعت هذه التطورات المتصاعدة بالسفير الإسرائيلي في واشنطن »مايكل أورن« إلي وصف الأزمة الحالية بين أمريكا وإسرائيل بأنها الأسوأ منذ »53« عاما.
وهكذا،...، وفي ظل هذه التطورات الحادة والمتصاعدة تولد عند البعض تصور أن هناك صداما حادا بين إدارة أوباما، ونتنياهو علي وشك الوقوع، وان تلك هي مقدماته المؤكدة، خاصة ان مصادر أمريكية أعلنت عن تأجيل زيارة مبعوث الرئيس الأمريكي للسلام في الشرق الأوسط والتي كان مقررا أن تتم لإسرائيل والسلطة الفلسطينية الثلاثاء الماضي، والتأكيد علي ان الولاياتالمتحدة تنتظر ردا ايجابيا محددا من رئيس الوزراء الإسرائيلي، حول المطالب التي طلبتها وزيرة الخارجية كلينتون خلال محادثاتها الهاتفية معه وهي: إلغاء قرار بناء المستوطنات بالقدس. اتخاذ خطوات إيجابية تجاه السلطة الفلسطينية كبادرة حسن نية، وإعادة ثقة. الإعلان عن موافقة إسرائيل علي بحث القضايا الجوهرية التي تخص الحل النهائي، ومنها قضية القدس.
ولكن لم يمر علي هذا الاشتعال، وذلك التفجر للأزمة، التي ظن الكثيرون انها مرشحة للمزيد من الاشتعال والتفجر، سوي أيام قليلة، حتي بدأت تأخذ منحي آخر، وتسير علي طريق التهدية، ووقف التصعيد. وفي هذا الإطار، وفي ظل الجهود والمساعي المكثفة، والتحرك السريع من جانب اللوبي اليهودي القوي في أمريكا، ونشاطه وتأثيره الواضح علي مراكز صنع القرار الأمريكي، وبمساندة من مراكز الضغط الأخري، بدأت الصورة في التغير وبدأت حدة التصريحات الغاضبة تنخفض وتهدأ بوتيرة متسارعة. وظهرت التراجعات الأمريكية، وطفت علي السطح اللهجة التصالحية، وأصبحت هي السائدة الآن، وأصبح واضحا أن الرياح لن تأتي بما تشتهيه السفن الفلسطينية والعربية.
والآن... أحسب أن علينا أن نتأمل في قصة الأزمة وتطورها لعلنا نجد فيها ما يصلح لوضعه موضح الإعتبار، في علاقاتنا العربية مع الصديق الأمريكي.