في عام 0002، قال الرئيس الامريكي بيل كلينتون: »الرؤساء يجيئون ويذهبون، ولكن هيلين توماس ظلت هنا علي مدي اربعين سنة، وتولت تغطية أخبار ثمانية رؤساء، وقامت بتوجيه وارشاد عدد لا يحصي من الصحفيين وتعليمهم اصول المهنة.. وكانت اكثر قدرة في هذا المجال من بعض سكرتيري الرئيس لشئون الصحافة.. وسوف اشعر بأن بلادي ستكون في حال افضل لو انها تستمر في قضاء بعض الوقت حولنا هنا في البيت الابيض.. ورغم كل شيء فانه بدون العبارة التي تتفوه بها وهي: »شكرا سيدي الرئيس«، فان البعض منا نحن الرؤساء لم يكن لينهي ابدا مؤتمراته الصحفية«. كان ذلك قبل عشر سنوات، عندما قررت هيلين توماس، الصحفية المخضرمة، ترك عملها.. غير انها استمرت لتقضي خمسين عاما.. في عملها كعميدة لمراسلي الصحف في البيت الابيض وتغطي اخبار عشر رؤساء امريكيين بعد ان بدأت ممارسة مهمة الصحافة في عام 3491 واصبحت مراسلة في البيت الابيض منذ الايام الاولي لادارة الرئيس جون كنيدي واشتهرت هيلين توماس بأنها لاتخاف من توجيه الاسئلة الصعبة والمحرجة للرؤساء والمسئولين الامريكيين، وهي اسئلة لا يجرؤ غيرها من الصحفيين علي النطق بها.. وكان هناك عدد من الصحفيين يرون ان مثل هذه الاسئلة »غير ملائمة« ويشعرون بالحرج عندما تتحدي هيلين اكاذيب ودعايات الحكومات الامريكية، خاصة في عهد الرئيس بوش الابن وكثيرا ما اعرب المحافظون الامريكيون الجدد عن ضيقهم من هذه الاسئلة. انها متحررة تماما من الاعتبارات التي يشعر اي صحفي آخر في غرفة المؤتمرات الصحفية في البيت الابيض انه مضطر للتقيد بها. وفي مقال نشر في عام 6002 بصحيفة »نيو ريبابليك« الامريكية، ندد معلق يدعي »جوناتان شيت«.. بهيلين توماس بسبب طريقتها »العنيفة والصاخبة« في توجيه الانتقادات التي تشتمل في رأيه علي اسئلة »غريبة« و»شاذة« من نوع تلك التي وجهتها الي الرئيس بوش الابن قائلة: »لماذا تقتل الناس في العراق؟.. وان الرجال والنساء والاطفال يموتون هناك، وهذا امر شائن ولا يمكن احتماله«. يقول المعلق الامريكي باتريك مارتن ان ما فعلته هيلين توماس هو ما يفعله اي صحفي يحترم نفسه، ولكن قلة من الانتهازيين والمأجورين في غرفة المؤتمرات هي التي كانت تجرؤ علي ان تفعل ذلك.
في 72 مايو الماضي كانت هيلين تغطي احتفال »شهر التراث اليهودي الامريكي« في البيت الابيض عندما اقترب منها شاب بعد خروجها من الاحتفال بينما كانت تسير علي رصيف الشارع، وبادرها بالسؤال: هل لديك اي تعليقات حول اسرائيل؟ اننا نسأل كل شخص اليوم عما اذا كان لديه ما يعلق به علي اسرائيل. انفرجت اساريرها عن الابتسامة التي ترتسم علي شفتي سيدة في التاسعة والثمانين من عمرها.. عندما يقترب منها فجأة شاب في السابعة عشرة من عمره، ويبدو علي ملامحه نوع من الاهتمام الجدي بانه معني بالتعرف علي افكاره. قالت هيلين بطريقة الجدة التي تخاطب حفيدها: »قل لهم ان يخرجوا من فلسطين«. تأوه صاحب السؤال قائلا »اوه.. أليس لديك تعليقات افضل من ذلك«؟ قالت هيلين: »عليك ان تتذكر ان هؤلاء الناس يخضعون للاحتلال، وان الارض ارضهم، وليسوا المانيا ولا بولندا«. وسأل الشاب: »اذن.. اين عليهم ان يذهبوا؟ وماذا يفعلون؟ وترد هيلين: »يستطيعون الذهاب الي بولندا.. المانيا.. وأمريكا واي مكان آخر.. لماذا يجري طرد الناس »الفلسطينيين« من البلاد التي عاشوا فيها لقرون طويلة؟.
وبعد مضي اسبوع يظهر شريط فيديو لهذه المقابلة الصحفية المرتجلة علي موقع »رابي لايف« وهو الموقع الاليكتروني للحاخام ديفيد نيزينوف، ويبدأ الشريط وينتهي بموسيقي تصويرية حادة.. عالية النغم، وفي الختام.. يظهر التعليق التالي: »ستة ملايين يهودي قتلوا في المانيا وبولندا، هل تعرف هيلين ان اليهود عاشوا في »اسرائيل« قبل الهولوكوست؟ كيف تكون هيلين غير متحيزة في تقاريرها الصحفية؟«. وظهر ان الشاب الذي وجه الاسئلة الي هيلين علي قارعة الطريق هو »ادم نيزنيوف« ابن الحاخام الذي كان يزور البيت الابيض لحضور الاحتفال والذي اعتبر المقابلة سبقا صحفيا يستحق الانتظار لمدة اسبوع حتي تهدأ العاصفة العالمية ضد الاعتداء الاسرائيلي علي قافلة الحرية. وفور اذاعة الشريط، سارع البيت الابيض الذي لم يغضب لقتل تسعة من ركاب القافلة علي ايدي الجيش الاسرائيلي بادانة هيلين توماس علي الفور. وبطريقته الدائمة في المواءمة بين مواقفه ومواقف اليمين واسرائيل.. انضم الرئيس الامريكي اوباما الي الحملة ضد هيلين ووصف تعليقاتها حول اسرائيل بانها »مسيئة« كما علق علي تقاعدها الاجباري من مجموعة هيرست الصحفية بانه »القرار الصائب«!. وكان الحاخام نيزينوف قد اتصل بمجموعة هيرست التي تعمل هيلين لديها وطلب التخلص منها، وهو ما حدث بالفعل، واعلنت مجموعة هيرست ان هيلين سوف تتقاعد.. وجاء هذا الاعلان يوم الاثنين 7 يونيو الحالي اي بعد يوم و احد من اذاعة شريط تعليقاتها علي نطاق واسع في وسائل الاعلام. وفي نفس الوقت، اعلن »الان جودوين« مدير مدرسة »والت وايتمان« العليا في ميريلاند الغاء ظهور هيلين توماس في احتفال المدرسة بالخريجين. ويقول المعلق الامريكي ماريك مارتن ان ابعاد هيلين توماس بعد تصريحها المناهض للصهيونية، برهان جديد علي البيئة الفاسدة في واشنطن الرسمية. وهكذا وصلت الرسالة. علي كل من ينتقد اسرائيل ان يصمت او يقطع لسانه ويحطم قلمه ويوضع اسمه في القائمة السوداء.. قائمة »الارهابيين واعداء السامية«!. والحاصل انك اذا لم توافق علي ان اسرائيل »نموذج اخلاقي« وان احتلالها للاراضي العربية في عام 7691 كان ضروريا لتلبية »احتياجاتها الامنية« وانها »الديمقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط« و»نور العالم«.. فانك ستتعرض للمطاردة والازدراء والمضايقات والانهاك والتهديدات والتخويف وتشويه السمعة والحرمان من المناصب.. والفصل من العمل. ولكن يبدو ان الموضوع اكبر واخطر من ذلك. ففي رأي عدد من المحللين الامريكيين، انه تم اعداد كمين محكم للاحاطة ب »هيلين توماس«.. وهو ما يحتاج الي مقال اخر. فالواجب المهني علي الاقل يفرض علي كل كاتب الكشف عن الحقائق وتوجيه التحية الي زميلة في المهنة.