النخبة المصرية هي من أهم أسباب إجهاض ثورة يناير . أشرت إلي دور النخبة في مقالة سابقة بعنوان "الحاجة إلي قيادة تاريخية". لكنها كانت إشارة عابرة . ربما احتاج الأمر أولا إلي شرح معني "النخبة". هي من الانتخاب، والانتخاب اختيار أيضا . المقصود بها جماعات من البشر تتميز بارتفاع المستوي التعليمي والثقافي والمكانة الاجتماعية وتلعب أدوارا مهمة في حياة الناس. من هذه الجماعات الكتاب والفنانون والأساتذة والقادة في الأحزاب والاتحادات والنقابات والمنظمات والمؤسسات بما فيها الدينية والإعلامية. يطلق عليهم صفة النخبة وكأنهم انتخبوا لقيادة المجتمع لما يتمتعون به. منذ بدايات الثورة وأنا أراقب " أدوار " النخب فيها . بينما أطلقنا علي هذه الثورة أنها " شعبية " فإن قيادتها كانت " نخبوية " . فالقيادة كانت من الشباب المثقف الذين انضووا في جماعات ثورية مثل جماعة كفاية وحركة 6 أبريل وصفحة كلنا خالد سعيد. كل ثورة لها طرفان: القيادة والجماهير . وقد تحدثت من قبل عن إجهاض الشعب، وهو الجماهير، للثورة. واليوم أحاول التأمل في دور القيادة وهي النخبة. في البداية لابد من أن نقرر أن الأغلبية العظمي من النخبة المصرية تكون وعيها وتربت وعملت في ظل النظام. وأنا أقصد بالنظام هذا الذي بدأ بعد تولي الرئيس الأسبق أنور السادات الحكم. فالرئيس السابق حسني مبارك كان نائبا للرئيس الأسبق ، ونظامه امتداد لنظامه . هذه الحقيقة تصنع تحديا لأي نظام جديد يمكن أن يقود البلاد إذ أن عليه أن يغترف من ماء النهر ذاته. كما لا يمكن علي الإطلاق تجاهل التأثير الشديد لهذا النظام الممتد من نهاية عام 1970 وحتي بداية 2011 علي النخب المصرية . بل وعلي الحياة كلها في مصر. هذا التأثير يحتاج في واقع الأمر إلي دراسة علمية لبحث تفاصيله وتأمل نتائجه المتشعبة داخل مصر وخارجها. ومن بين تأثيرات هذا النظام أنه طبع كثيرا من النخب المصرية بسماته. وجعلهم ، أي هذا الكثير ، يتعاملون ، طائعين أو مجبرين ، بالقواعد التي فرضها. هناك بالطبع استثناءات من هذه القاعدة من أفراد من النخب رفضت هذه السمات وتلك القواعد وعانت نتيجة لهذا الرفض بشكل أو بآخر. هذه الاستثناءات أيضا هي مما يجب أن تدرجه الدراسة التي أطالب بها في اعتبارها. منذ البداية حاول النظام بعد 25 يناير 2011 الاستعانة بوجوه معروفة من النخبة للالتفاف علي الثورة . ظهر ذلك في التشكيل الوزاري الأول الذي ضم خليطا من الشخصيات من الحكومات السابقة ومن خارجها . ولا يمكن أن أنسي أن وزير الثقافة في هذه الحكومة وهو الدكتور جابر عصفور عقد اجتماعين مع قيادات الوزارة خلال الفترة القصيرة التي تولي فيها. الأول كان لإعداد الخطط والبرامج المناسبة للمرحلة ، والثاني كان لإعلان أنه سيترك الوزارة لأنه اكتشف أنها لا تزال وزارة الحزب الوطني ، علما بأنه حلف اليمين أمام رئيس الحزب ، ولم يكتف بذلك بل دعا القيادات إلي أن تترك مواقعها . وقد اعترضت علي هذه الدعوة موضحا أن هذه القيادات مسئولة عن عمل تنفيذي لتسيير أمور مؤسساتها وليس عملا سياسيا، وأننا نعيش أياما من الفوضي ، فإذا ترك كل مسئول مؤسسته فهذه دعوة لاستباحة هذه المؤسسات وتخريبها . وأن الوطنية تقتضي أن نحافظ علي مؤسسات الدولة ونحمي ممتلكاتها والعاملين فيها. وعدت إلي مؤسستي وجمعت العاملين فيها وكررت عليهم الكلام ذاته مشاركة في الحفاظ علي الوطن . مع استمرار الضغوط الجماهيرية تغيرت الوزارة أكثر من مرة بعد ذلك. لكن النخبة لم تتغير . بل واصل كثير من هذه النخب في إجهاض الثورة بوعي أو بغير وعي مما يقتضي تحليلا علميا. لا يمكنني اليوم أن أتقصي كل مشاركات النخبة في إجهاض الثورة . لكن ربما اكتفي بمثال من وسائل الإعلام بصفتها الأكثر تأثيرا فيما يسمي بالرأي العام . أستطيع القول بضمير مستريح أن كثيرا من وسائل الإعلام لعبت دورا كبيرا جدا في إجهاض ثورة يناير . ومما يدل علي ذلك: إسراع البعض بانتهازية واضحة إلي ركوب موجة الثورة للتسمي باسمها والعمل علي ضربها من خلال امتلاك وسائل الإعلام أو استخدامها . هناك قناة تليفزيونية سماها أصحابها بأشهر اسم ارتبط بالثورة. راجع من أسسها ومن عمل فيها وإلي من ذهبت حاليا ! هذا غير القينوات التلفزيونية الخاصة القديمة والجديدة التي يمتلكها رجال أعمال ارتبطوا بعلاقات وثيقة بالنظام وحزبه الوطني . كيف للمرء أن يصدق انقلاب هذه القنوات وبعض من نجومها علي النظام ، ومن ثم حديثهم عن الثورة ؟ إن هذا مما يشبه العلاقة بين الزيت والماء . فمهما حاولوا من إضافة الماء فإن الزيت لن يذوب فيه. قس علي ذلك أيضا ما يحدث في بعض من الصحف والمجلات. لاحظ السوق الضاربة المتضاربة فيها التي تنشر العماء فلا نري البوصلة. لاحظ المتاجرة بالثورة، والتطرف في الهجوم علي الرموز السابقة للنظام، ونشر معلومات لا يمكن للعقل العادي تصديقها. أعتقد أن التطرف في الهجوم والمبالغة في نشر المعلومات غير الصحيحة يساعدان علي إجهاض الثورة بأكبر مما يفعل الهجوم المباشر عليها.. وإن بدا هذا الهجوم مسموحا به حاليا بعد أن كان محرما بغير تنزيل. ومن إجهاض النخبة للثورة أن كثيرا منهم إما أنهم تعاملوا بانتهازية معها، أو وقفوا موقف المتفرج بعد تخلي الرئيس السابق عن الحكم . ولم يقفوا عمليا بخطوات واضحة ومستمرة مع هذه الثورة، والقائمة طويلة بين أشخاص ومؤسسات رسمية وغير حكومية من هذه النخبة.