حينما خلع ثروت عكاشة بدلة الضابط، بعد نجاح ثورة يوليو 1952، ليرتدي بدلاً منها ثوب الفنان، ويصبح وزيراً للثقافة في مصر، لم يشأ أن يطغي دور الوزير علي دور الفنان، من منطلق حرصه علي تحقيق مشروعه الثقافي. فسار في طريقين متوازيين، الأول: وضع مجموعة من الكتب غير المسبوقة بالنسبة للقارئ المصري، أذكر منها كتابه "مولع بفاجنر"، الذي لفتني كثيراً عندما طالعته لأول مرة، وكذا ترجماته لدواوين أهم شعراء المهجر جبران خليل جبران: "النبي"، "حديقة النبي"، "عيسي ابن الإنسان"، "رمل وزبد"، و"أرباب الأرض"، التي وضع فيها النص الأصلي في صفحة، وترجمته علي الصفحة المقابلة، فضلاً عن ترجمته لرائعة أوفيد "مسخ الكائنات" التي زينها بمستنسخات من اللوحات الأصلية المعروضة في متحف اللوفر، و"فن الهوي" الذي صاحبت ترجمته لوحات فناننا الراحل الصديق يوسف فرنسيس. كان ذلك قبل أن يشرع في نشر موسوعته الضخمة في الفن الشرقي القديم التي دعمت المكتبة العربية كثيراً في مجال التأريخ للفن، ولا ننسي مجلداته التي أعطاها عنواناً بالغ الدلالة "العين تري.. والأذن تسمع". والطريق الثاني الذي سلكه الراحل الدكتور ثروت عكاشة هو قيادة العمل الثقافي، ووضع اللبنات الأولي لصروح تثقيفية وتعليمية غيرت الأوضاع علي الساحة المصرية، بل والعربية أيضاً، فأنشأ أكاديمية الفنون، التي شرفت بالانتماء إليها، والتي تضم معاهد: السينما، والباليه، والكونسيرفاتوار، والفنون المسرحية، والتذوق الفني، وشيد قاعة سيد درويش، هذا إلي جانب إنشاء هيئات إشرافية علي الفنون تابعة لوزارة الثقافة كمؤسسة المسرح، والموسيقي، والفنون الشعبية، والجامعة الشعبية التي غدت الثقافة الجماهيرية ، والمؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر التي كانت سهير القلماوي أول رئيس لها وتحول اسمها إلي دار الكاتب العربي، قبل أن تصبح "الهيئة المصرية العامة للكتاب". في هذه المجالات كان حريصا علي ألا يطغي عنصر من عناصر الثقافة علي غيره، فإلي جانب دور العرض المسرحي، عزز النشاط الفني بسلاسل مهمة مثل "روائع المسرح العالمي"، وأسهم في إحياء القيمة الثقافية الموروثة عبر سلسلة "أعلام العرب"، وبسط المفاهيم والرؤي من خلال سلسلة "المكتبة الثقافية"، وتبني المواهب المبدعة عبر سلسلة "كتابات جديدة" التي أسهمت في نشر بواكير أعمال المتميزين من أبناء الستينيات الذين صاروا فيما بعد من النخب البارزة علي الساحة. وكان ثروت عكاشة الفنان شغوفاً بالبحث، فلم يكتف بمنصب الوزير، بل حرص علي نيل أرقي درجة علمية من السربون تأكيداً لمبدأ التوازن الذي خطط له منذ البداية بين العالم والإنسان الفنان والإداري. وإذا كانت نكسة 1967 صدمت جيلاً بأكمله فقد نجح ثروت عكاشة في بث روح جديدة في نفوس المصريين عندما فكر في الاحتفال بألفية القاهرة تأكيداً علي قيمة هذه المدينة التي هي قطعة من تاريخ مصر الإسلامي، فكانت "ألفية القاهرة" احتفالية غنائية وفنية وإبداعية حولت مرارة الهزيمة إلي إشراقة أمل، وكان من آثار ذلك صدور كتاب "القاهرة في ألف عام" الذي تحدث فيه عن مدينة الألف مئذنة التي ترتفع معلنة أن الله أكبر. وإذا كان ثروت عكاشة قد غادر وزارة الثقافة بعد رحيل جمال عبدالناصر مفضلاً أن يتفرغ لفنه بعد أن غاب زعيمه وقائد كفاحه، فإن مشروعه الثقافي لم يتوقف، وإنما استمر، وانتشر في أرجاء العالم العربي. لذا فإنني عندما زرت مقر "ندوة الثقافة والعلوم" في دبي مؤخراً وجدت أن ثروت عكاشة والفريق الجمسي كانا من أوائل ضيوفها، ولذا حرصت جائزة سلطان العويس علي تكريم عطائه الممتد قبل سنوات من رحيله.