كنت أتوقع ومازلت أن يقوم فنانو مصر بدور أكبر من الصمت والاختفاء أو الاكتفاء بالظهور في حوارات علي القنوات الفضائية عند هذا المنحني الصعب الذي نمر به. في أيام صعبة كهذه أو أشد حزنا لكن أقلها يأسا قررت السيدة أم كلثوم بعد نكسة 67 أن تطوف العالم كله تغني لجمع التبرعات للمجهود الحربي من أجل توفير عملة صعبة لإعادة تسليح الجيش المصري. بالنظر في فكرة وقرار سيدة الغناء نري أنها حسمت أمرها أن تواجه الأزمة بالعمل. وليس بالإقامة في ستوديوهات مدينة الإنتاج الإعلامي والتنقل من برنامج إلي برنامج تتسول دعما أو معونة!. نظرة أخري سنعلم أنها رأت أن تذهب إلي العالم ليعرف القضية المصرية. لتشرح بدقة موقفنا ورأينا. ليري العالم أننا رغم الهزيمة نقف علي قدمينا. نواجه الحزن بالغناء، والأزمة بالعمل، واليأس بمنتهي الأمل.. سبعة وستون عاما وأكثر كان عمر أم كلثوم، متكئة علي سنوات طويلة وحزن عميق ومرض يجعل عظامها هشة ولينة، لكنها أم كلثوم التي من زمن أم كلثوم. نعم زمن جميل، فيه صلابة وسمو، فيه كبرياء وصمود، فيه حس وطني وإحساس كامل بالمسئولية. سافرت إلي باريس في أول مشوارها الطويل، وغنت علي مسرح الأولمبا الشهير، وحين زرت هذا المسرح بعدها بثلاثين عاما كان لها صورة تتصدر المكان وكان هناك رجل عجوز وصف لي كيف غنت بروعة ثلاث ساعات متواصلة في برد يصل إلي الصفر، حتي ثمل الحاضرون، وبعضهم فرنسيون جاءوا يروون المعجزة. وكثير منهم جاء من أنحاء أوروبا زحفا إلي حيث السيدة أم كلثوم تبدع في ليلة شتاء. كتبت الصحف عن سيدة مصر وتحدثت أم كلثوم لهم عن بلدها المهزومة غدرا أو قهرا، وكسبت ملايين تعاطفوا معنا وملايين الفرنكات الفرنسية تم تحويلها من إيراد الحفل وتبرعات مصريين وعرب! أعرف أننا الآن لانملك أم كلثوم أخري. لاصوتا ولامكانة ولاقامة ولا قيمة ولاقوة، لكننا يمكن أن نملك فكرة، نملك الإرادة التي تجعل من فريق من فناني مصر يجتمعون لوجه الوطن للقيام بجولة طويلة حول العالم لإقامة حفلات فنية لأكثر من ثلاثين مليون عربي حول العالم. نغني ونعرض روايات مسرحية وأفلاما سينمائية ولوحات فنية وفنونا شعبية. دور الفن أن ينهض بالأمم في أزماتها ودور الفنان أن يتحرك حين تصبح الأرض علي وشك البوار ليبقيها علي قيد الحياة. ثلاثون مليون عربي ومصري حول العالم يشتاقون لرؤية رواية لعادل إمام أو نور الشريف أو يحيي الفخراني أو حسين فهمي أو يسرا أوليلي علوي، لمشاهدة نص مسرحي كتبه لينين الرملي أو أسامة أنور عكاشة أو وحيد حامد، يشتاقون للوحة رسمها فنان مصري، يشتاقون لحفل يغني فيه عمرو دياب أو محمد فؤاد أو محمد منير أو هشام عباس أو محمد حماقي أو أنغام، يشتاقون لحفل توقيع كتاب لجمال الغيطاني أو بهاء طاهر أو إبراهيم عبد المجيد أو بهاء جاهين، يشتاقون لعزف عمار الشريعي علي عود و أصابع عمر خيرت علي البيانو، يشتاقون لحلي عزة فهمي ورقصات فرقة رضا وعرائس الليلة الكبيرة. يشتاقون لكل ماهو مصري، من ريحة الحبايب، أيام وليالي مصرية لمدة سنة. هل لاتستحق مصر سنة من العمل لأجلها يافناني مصر ؟ لقد منحت مصر الجميع.. حان وقت أن يمنح الجميع مصر بعض من عطائها.. إنني أتخيل وأحلم بطائرة مصرية تحمل كتيبة الفن المصري إلي كل مكان في العالم يدعمون بلدهم بفنونهم. إنهم لو يعلمون أفضل دعاية لبلدهم، يمكنهم أن يؤكدوا لكل العالم أن مصر بخير، وأنها جاهزة لاستقبالهم في عصرها الجديد، قوية كما هي، جميلة كما يقول الكتاب، بخير كما نريد لها.. من يبدأ معي مبادرة أمنحها اسم السيدة أم كلثوم ؟.. برعاية مؤسسة عريقة وكبيرة هي أخبار اليوم التي ساندت قبل 44 سنة مبادرة أم كلثوم الأولي.