»وما الدنيا إلا مسرح كبير«!! هذه الصيحة التي اطلقها عميد المسرح العربي يوسف وهبي في النصف الأول من القرن الماضي، تصلح لإعادة إطلاقها- مع تعديل طفيف- لتناسب التطورات المثيرة التي يشهدها العالم في القرن الحالي وفق إيقاعات سريعة متلاحقة، بطلها تقنيات التجسس الالكتروني!. المفكرون في القرن الماضي- وابرزهم چورچ اورويل في رائعته (1984) - كانوا دائمي التحذير من سيطرة النظم الدكتاتورية علي البشر، من خلال احكام الدوائر علي عقولهم وحركتهم، وعدم التهاون في مراقبتهم، وعد انفاسهم، لكن القرن الحادي والعشرين جاء حاملا معه تقنيات عديدة تطارد الانسان حيثما واينما كان، ولا تكتفي بأن تحصي انفاسه- لكنها تتعقبه، وتقتحم ادق خصوصياته دون أن يشعر أو يدري، والاخطر ان الدول التي كانت تباهي بديمقراطيتها، أصبح مواطنها اسيراً لعيونها المبثوثة في كل مكان، ثم انها باتت مصدر توريد هذه التقنيات الي الدول ذات الانظمة الاستبدادية!. مفارقة تثير أكثر من علامة للتعجب! مثلا، نظام تحديد المواقع العالمي »چي بي اس« مهمته التتبع دون إذن أو تصريح، وباستطاعته ان يتعقب البشر والاشياء، والمركبات و.. و.. أجهزة الكمبيوتر مزودة بخاصية مماثلة، وبامكان مُصنعيها المتابعة اللصيقة والدائمة لحامل الجهاز! ثم ان أي جهاز أو آله مزودة بالعديد من الكمبيوترات المخفية، يمكن لواحد منها أو اكثر ان يعمل كجاسوس حميم لا يرحم صاحبه!. واذا كان هناك - فيما مضي - من يستطيع الافلات من أجهزة التنصت المزروعة في منزله أو مكتبه أو سيارته.. بالخروج إلي الفضاء الفسيح- هربا من الملاحقة- فإن نقمة التقنيات الحديثة تجعل من هذه المحاولات ترفاً أصبح موقعه الروايات القديمة، ومذكرات الساسة التي قد تثير الضحك اليوم باعتبارها وسيلة للتسلية!. هب أنك خرجت إلي الشارع أو أحد المتنزهات. فأنت هنا أو هناك تحت السيطرة »بالصوت والصورة«! انت اسير »الشوارع الذكية«. إنها مزودة بمصابيح غاية في الذكاء، بل هي في حقيقتها وسيلة لتتبع أي وكل حركة يقوم بها المارة الآمنون!. عمود الانارة يحتضن معالجاً يشبه »الآي فون« يتلقي مدخلات ومُخرجات، بل ان الاعمدة تتبادل الاحاديث، كل منها يسلمك للذي يليه، وبمجرد دخولك مجال رؤية ضوء الشارع، فإن ثمة كاميرا تتابعك، ليس هذا فقط.، فالنظام ايضا يستطيع تسجيل ما يدور من احاديث واصوات!. وبالطبع فإن هناك نظاما مركزيا للتحكم، واستقبال المعلومات فوريا! واذا استطعت الهروب من »الشوارع الذكية« او بدقة »جواسيس الشوارع« ووصلت إلي الطرق السريعة، فإن اعلانات »ذات عيون واسعة« بانتظارك!. هي الاخري مزودة بأنظمة رقمية ذات اجهزة استشعارية وكاميرات قادرة علي تمييز الوجوه. اين اذن المفر؟! وحتي لا يحرم المواطن من نعمة احدث التقنيات لانه ينتمي إلي إحدي دول العالم الثالث أو حتي الرابع الغارق في المشاكل والمعاناة فإن الدول المتقدمة حرصت- عبر خبرائها ومُصنعيها- علي انتاج تقنيات مناسبة وتفي بالغرض حيث لا احترام لأدني حقوق الانسان!. ثمة تقنيات تجسس تغطي جميع الانشطة، لتتيح لتلك الدول تتبع حركة اي مواطن، عبر تشغيل كاميرات الكمبيوتر المحمول او الهاتف المحمول لمراقبة من تشاء عن بعد، وبالفعل فإن سوق التجسس الالكتروني تتسع كل يوم، وربما كل ساعة، لتتحول المعمورة بأكملها الي مجرد وكر كبير للتجسس بحجم كوكب!!.