وفي أواخر القرن التاسع عشر، أعلن عالم المصريات الكبير »ادوارد نافيل« ان النقوش التي عثر عليها علي جدران مقصورات معبد الدير البحري، تؤكد ان مصر في وقت ما، حكمتها امرأة!! السبت: في عام 9281، تمكن العالم الفرنسي »شامبليون«، الذي جاء إلي مصر مع الحملة الفرنسية التي قادها »نابليون بونابرت«، من اكتشاف موقع معبد الدير البحري، وعثر بين أكوام حطامه واطلاله، علي قطع حجرية تحمل نصوصا ونقوشا تشير إلي ان »امرأة فرعون« اعتلت عرش مصر منذ حوالي 5641 سنة قبل الميلاد.. وبعد ثلاثين عاما من هذا الاكتشاف المذهل، توجه العالم »أوجست مارييت«، مؤسس مصلحة الآثار المصرية، إلي منطقة المعبد، وقام بعمليات تنقيب بين اطلاله، بمعاونة عدد من معاونيه، أسفرت عن اكتشاف نقوش بارزة علي احد الجدران، تتحدث عن حملة كبري قام بها المصريون علي »بلاد بونت«.. وكان واضحا ان الذي نظم تلك الحملة، وأشرف عليها فعليا هو »امرأة فرعون«، وان اسمها »حتشوبسيتو«!! وفي أواخر القرن التاسع عشر، أعلن عالم المصريات الكبير »ادوارد نافيل«، انه اكتشف بمشاركة مجموعة من الباحثين، نقوشا بارزة علي جدران الممرات والمقصورات في معبد الدير البحري.. وقال انه علي يقين كامل من ان هذه النقوش، رغم محاولات البعض كشطها ومحوها، تؤكد ان مصر في وقت ما، قد حكمتها ملكة تدعي »حتشبسوت« وان إليها يرجع الفضل في ابداع وبناء معبد الدير البحري، الذي يعتبر بحق رائعة معمارية شبه معجزة.. وفي عام 1191 جاء إلي مصر عالم المصريات الأمريكي »هربرت وينلوك«، رئيس قسم المصريات بمتحف »المترو بوليتان« في مدينة نيويورك، وقام بمعاونة مجموعة من المتخصصين، بعمليات تنقيب ضخمة في منطقة الدير البحري، استمرت عشرين عاما، كان هدفها اظهار المعبد وكل ما يحيط به اظهارا كاملا.. وتمكن من استخراج مئات آلاف القطع من حطام وبقايا التماثيل والأشكال الممثلة للملكة، وعكف علي إعادة تكوينها من جديد بمهارة، وهمة، وصبر لا مثيل له، لمحاولة الوصول لشكل وجه الملكة »حتشبسوت«.. إلا ان عمليات الكشط والتشويه التي تعرضت لها كل آثار الملكة العظيمة، قد جعلت عملية استعادة تكوين الوجه الحقيقي لها أمرا مستحيلا! من هي حتشبسوت؟ في الكتاب الرائع الذي صدر منذ سنوات قليلة في باريس تحت عنوان »حتشبسوت.. عظمة وسحر وغموض« وقامت بترجمته إلي العربية الأديبة الكبيرة الراحلة، فاطمة عبدالله محمود، وصدر مؤخرا في مصر عن المجلس الأعلي للثقافة ضمن المشروع القومي للترجمة، بعد قيام الدكتور محمود ماهر طه بمراجعته.. وتقول مؤلفة الكتاب »كريستيان ديروش نوبلكور«، وهي من أشهر علماء المصريات في فرنسا، ولها عشرات المؤلفات التي تتحدث عن الحضارة الفرعونية: »-بعد ان عشت وعملت أكثر من ستين عاما في ممارسة علم المصريات، قد اسمح لنفسي، مع توخي الحذر والحيطة الفائقة، بطرق أبواب عالم »حتشبسوت« الملبد بالغيوم، المفعم بالأسرار، بل سوف اجرؤ علي ولوج المشاعر الحميمة التي اعتملت في وقت ما بحنايا وقلب حتشبسوت.. تلك الملكة، البطلة الحقيقية لقصة مغامرات فعلية فريدة من نوعها، لم يشهد الزمان لها مثيلا.. إنها الإنسانة المثيرة للدهشة والعجب والاعجاب التي اتسمت بذكاء خارق، وعزيمة فولاذية لا تقهر ولا تقاوم!!« ويقول الدكتور محمود ماهر طه في المقدمة، التي استهلت بها الأديبة الكبيرة الراحلة فاطمة عبدالله محمود الطبعة العربية للكتاب: »-حتشبسوت أشهر ملكات مصر والعالم القديم، بل تفوق عظمتها جميع ملكات العصر الحديث أيضا.. مرت حياتها الشخصية والعامة، بمراحل مثيرة ميزتها عن سائر الفراعنة.. جاءت في عصر كان فيه لقب »ملك مصر« يدل علي القوة والعظمة، والمقدرة الفائقة.. ونجحت كامرأة في ان تسود العالم القديم، وتقود الامبراطورية المصرية بكفاءة لا نظير لها.. فهي فخر للمصريين، وللمرأة المصرية في كل العصور«. وتقول »كريستيان ديروش نوبلكور«: ان »حتشبسوت« هي الابنة الكبري التي انجبها الملك »تحتمس الأول عا - خبر- كا-رع« من زوجته الملكة المعظمة »أحمس«.. ولها شقيقة واحدة تصغرها بأربع سنوات تدعي »نفرو-بيتي«، وثلاثة اخوة ذكور غير اشقاء انجبهم أبوها من زوجة ثانوية تدعي »موت-نفرت«.. كان أكبرهم »إمنمس«، وثانيهم »واجمس« الذي كان يعاني من تخلف عقلي وجسماني.. اما أصغرهم فهو »تحتمس«، الذي كان به قدر واضح من ضعف الشخصية، الا انه كان يبدو أكثر قوة ومقدرة جسمانية من أخويه.. أما الأميرة »حتشبسوت« فكانت تزداد تألقا ونضارة منذ ان بلغت ربيعها الثالث عشر.. لقد شبت وامتشق قوامها، وأصبحت شابة ناضجة متألقة مكتملة«. صبية حادة الذكاء أصدر »تحتمس الأول«، قرارا بتكليف »أحمس بن نخبت« معلم ومربي الأميرة »حتشبسوت« باصطحابها إلي مدينة »نخب« ومعها وصيفتها »سات-رع« وكانت الأميرة الصغيرة حينئذ تخطو نحو بداية عامها السابع، الا انها بينت عن ذكاء متألق باهر، واقبلت في فهم وتوقد فكري علي الاستماع الي دروس التاريخ التي كان يلقيها عليها معلمها.. وعندما بلغت العاشرة من عمرها التقت بشخصية مهمة.. انه »أحمس بن أبانا« رئيس البحارة.. وكان هذا الشخص قائدا عسكريا اسطوري الشجاعة، وكانت جعبته مليئة دائما بالقصص والمغامرات الخلابة التي قام بها المحاربون المصريون في معاركهم في الشمال والجنوب علي السواء.. وكانت مفاخر وانتصارات هؤلاء المحاربين البواسل تثير اهتمام واعجاب الأميرة الصغيرة، كما كانت المعلومات التاريخية عن اجدادها واسلافهم العظام التي يرويها لها معلمها البارع »أحمس بن نخبت« تلهب خيالها وتوقظ في داخلها الاعتزاز والثقة بالنفس. وتقول المؤلفة الفرنسية لكتاب »حتشبسوت عظمة وسحر وغموض«: »- بعد عودة »تحتمس الأول« من الحملة العسكرية التي قادها ضد متمردي النوبة اصطحب ابنته الجميلة في رحلة إلي مدينة »منف«، تلك المدينة الادارية عريقة القدم، التي اشتهرت بحاميتها قوية البأس.. وكان للملك فيها قصر فخم تحيط به أملاك وحدائق شاسعة.. كانت رحلة حج فعلية لزيارة كل المعابد القائمة بهذه المنطقة، وفهمت الأميرة ان الغرض من هذه الرحلة، هو اعدادها لارتقاء عرش مصر.. وكانت الرحلة تشتمل علي زيارة أهم المدن المقدسة، إلا ان الهدف الرئيسي، أو الأساسي، كان زيارة معبد »اتوم« بهليوبوليس.. حيث استقبلها هذا الاله الأولي ومنحها نصيب »حورس« ونصيب »ست«، وخولها السلطة علي جميع الوديان والجبال.. وتوجهت الأميرة مع ابيها بعد ذلك إلي جميع معابد الآلهة الأخري، بدءا بالإلهة »حتحور« ربة طيبة، ثم الاله »بوتو«، ثم الاله »آمون« رب عروش القطرية، ثم عادت إلي معبد الاله »آتوم« معبود هليوبوليس ثم توجهت إلي معبد الاله »خنوم« سيد الشلال.. وفي أثناء هذه الزيارات، تم استقبالها من أفراد الشعب استقبالا حاراً تعبيرا عن تقبلهم لها ورضائهم بها خليفة لوالدها »تحتمس الأول« ووريثة وحيدة لعرش مصر..« المفاجأة المذهلة! انتهت الرحلة، وعادت الأميرة مع ابيها الملك إلي طيبة، وبعد بضعة أيام روعت بمفاجأة مذهلة كادت تفقدها صوابها.. فقد قرر أبوها تزويجها من أصغر اخوتها غير الاشقاء »تحتمس«.. وشعرت »حتشبسوت« بإهانة بالغة، لكنها تماسكت.. عندما تذكرت ان التقاليد التي كانت سائدة تحتم ان يكون الملك من الذكور.. وبعد فترة تقبلت الوضع بعد ان ادركت ان زواجها من تحتمس الشاب، الذي سوف يتوج ملكا سيجعل منها زوجة ملكية معظمة، واعتبرتها مرحلة نحو الملكية المطلقة. وتم تتويج »تحتمس الثاني« قبيل وفاة أبيه بفترة قصيرة، أصبح بعدها الملك »عا-خبر-ان- رع«، وأصبحت »حتشبسوت« الملكة المعظمة.. وقام الاثنان بأداء واجبهما التقليدي الموقر لتحتمس الأول عند وفاته، وشاركا معا في الطقوس الجنازية.. وتقول »كريستيان ديروش«: »ان بعض النظريات الحديثة تؤكد ان »تحتمس الثاني« قد حكم مصر لفترة لا تزيد علي ثلاث سنوات، رغم ان الجزء الباقي من اثاره ومنشآته القليلة يبين ان فترة حكمه قد امتدت أكثر من ذلك.. وقد انجب من »حتشبسوت« طفلتين الأولي »نفرو رع« والثانية »مريت رع«.. وانجب من زوجته الثانية »ايزيس« ابنه »تحتمس« الذي أصبح الملك »تحتمس الثالث« بعد وفاته، ولكن تحت وصاية الملكة المعظمة »حتشبسوت«، لانه كان دون الخامسة من عمره.. ولقد تقبلت هي هذا التتويج علي مضض.. واعتبرت الملك الطفل شريكا في الحكم بالاسم فقط وان الاقدار شاءت لها ان تصبح اخيرا الملكة المعظمة التي تجلس دون منازع علي عرش مصر الذي هو من حقها وحدها.. بعد أن أيدتها الآلهة.، وباركها »آمون« رب الأرباب، ولم تضيع الوقت، فسرعان ما لقبت نفسها بلقب »ماعت-كا-رع« ومعناه »ملك مصر العليا والسفلي«.. وذرا للرماد في العيون حرصت علي التظاهر بالتمسك بمشاركة الملك الطفل لها، حتي بعد تتويجها.. ليصبح عرش مصر مزدوجا.. ولكي تضفي علي وضعها الجديد السمة الرسمية، لجأت إلي ارتداء ملابس الملوك الرجال أثناء المراسم والاحتفالات الرسمية والدينية.. أما في حياتها العادية، فكانت تحتفظ بمظهرها وزينتها الانثوية. وهكذا أصبح لمصر ملكان.. »حتشبسوت. ماعت-كا-رع« ملك مصر العليا والسفلي.. و»تحتمس الثالث. من -خبر- كا- رع« ملك مصر العليا والسفلي.. وبشكل متدرج، حلت كلمة »برعا« -معناها البيت العالي- محل اللقبين.. ثم تحورت هذه الكلمة إلي »فارع«، ثم تغيرت إلي »فرعون«.. التي أصبحت فيما بعد اللقب الدارج المعتاد لكل ملك جلس علي عرش مصر.. الحقد المرير! كانت »حتشبسوت« تتميز بعبقرية نادرة، وخلال فترة حكمها كملكة، أقامت الكثير من المنشآت العمرانية، والمشروعات الزراعية في جميع أنحاء مصر، وازدهرت العلوم والفنون.. وتميزت سياستها الخارجية باتباع سياسة السلام مع الممالك المتاخمة لامبراطوريتها، وأرسلت بعثات بحرية إلي بلاد »بونت« لاقامة علاقات صداقة ومحبة مع حكامها، وفي نفس الوقت كانت تحرص علي التصدي للمتمردين عليها في الجنوب الذين كانوا يثيرون القلاقل والاضطرابات.. ولم تكتف بحملات التأديب، بل قامت بحملة عسكرية إلي النوبة، قادتها بنفسها، واستطاعت ان تقمع مثيري الاضرابات قمعا باترا. ويقول علماء المصريات، ان جميع النصوص التي تم العثور عليها في المعابد التي اقامتها »حتشبسوت«، تؤكد رغم ما تعرضت له من تشويه وتدمير، ان هذه الملكة العظيمة تمكنت من ادارة شئون مصر بفكر علمي لم يعرفه الملوك الذين سبقوها.. ومع ذلك فمازالت حقيقة »حتشبسوت« يكتنفها الغموض، وتحيط بها الغيوم الكثيفة. ويقول عالم المصريات الأمريكي »هربرت وينلوك« ان عمليات الكشط والتشويه، التي لوحظت فوق كل النصب والمنشآت التي اقامتها الملكة المعظمة حتشبسوت، في الكرنك، والكثير من المعابد التي قامت ببنائها في مصر العليا، قد تمت بأيد خبيرة متمكنة، مما يدل علي ان هناك شخصية تتمتع بنفوذ كبير وسطوة ذات شأن، كانت تقف وراء اصدار الأوامر بمحو اسم »حتشبسوت« تماما.. وقال ايضا انه يؤيد كل الشكوك التي أجمع عليها معظم علماء المصريات في ان يكون الملك »تحتمس الثالث« هو الذي أصدر تلك الأوامر.. فقد كان يشعر حيالها بحقد مرير، وغل وكراهية لا حدود لهما، لانها أبقته في الظل منذ تتويجه، واغتصبت كل حقوقه كملك، وجعلت منه خيال مآته بلا قيمة طوال اثنين وعشرين عاما، ولعله كان يشعر بجانبها بانه مقهور ومغلوب علي امره، وبالتالي بعد انتقالها إلي العالم الآخر عمل علي اضطهادها والثأر منها.. حتي يمحو من الوجود، ومن ذاكرة التاريخ أي أثر لذكراها المقيتة، البغيضة بالنسبة له!! ولا ريب في ان »حتشبسوت« لم تكن الوحيدة التي عانت من ذلك الحقد غريب الشأن، فان النصب والمنشآت الجنازية الخاصة بأفراد حاشيتها الأوفياء، المخلصين المقربين منها، قد لاقت بعد وفاتها نفس المصير.. تدمير، وتحطيم، واضرار بالغ.. لكن.. ذكري »حتشبسوت« بقيت، وطغت، رغم كل ذلك، وها نحن نتذكرها، ونمجدها، ويمجدها معنا علماء أجلاء في كل أرجاء الأرض لانها كانت امرأة رائعة مخلصة لوطنها وشعبها ودينها.