لم أكن أتصور أنه سيأتي اليوم الذي تجبرنا فيه النخب السياسية علي الانجراف بعيداً عن آمالنا وطموحاتنا المشروعة بعد ثورة يناير، فهل الذين ركبوا علي أكتافها يتوهمون أنهم سوف يستمرون في أوضاعهم تلك ولن تنفضهم غضبة الثورة القادمة عنها ولن تلقي بهم إلي الجحيم أو تسوي بهم الأرض يوماً ما؟! لعلهم لم يقرأوا التاريخ جيداً أو لم يستوعبوا ما في أحداثه من عبر، ولن أبالغ حين أؤكد لكم أن الثورة لم تكتمل بعد وأن هناك مشواراً طويلاً يجب أن يقطعه الثوار مع الشعب حتي تتطهر مصر من بقايا البغي والاستبداد، وآثارهما المحفورة في أرض الوطن ووجدانه معاً، وما هذه الأمية السياسية والتعليمية إلا نتاج قليل مما أنتجته الأنظمة المستبدة والأخلاق الفاسدة التي خلفتها. ومهما حملت لنا هذه الطغمة التي دخلت علينا من أقطار الديمقراطية المنقوصة، مهما حملت من مبررات وحجج وأقاويل، ما اقتربت من صميم الديمقراطية الحقيقية أو العدل المنشود قيد أنملة، إنه الزبد الذي جاءنا قبل أن تأتينا مياه النهر، ولذلك فإن ما ينفع الناس لم يأت بعد، وأن الحقيقة التي تكمن وراء ما يضمرون هي أشد ألماً مما يجعلنا نطوي عليها الصدور ونكتم خيبة أملنا فيمن كنا نظنهم أقرب الناس إلي الحق وأجدرهم به. فالفارق كبير جداً بين من خرج يحمل روحه علي كفيه يبسطها دون مأرب دفين إلا الحرية لبلاده والعيش الكريم لأبناء بلاده، وبين هؤلاء الذين كانت أعينهم علي السلطة يداهنون من قبل ويخططون بغير يأس، فتارة يقتربون من الأنظمة المستبدة وتارة يبتعدون، ويلعبون دور المعارضة تارة أخري، وهم.. هم وجه آخر لأنظمة الاستبداد والقهر والبطش، إنه فارق بين النبل والطهر وبين التلون والمخاتلة والاستعداد لتقديم التنازلات، هي إذن حسبة صعبة للغاية سوف يدفع ثمنها الأبرياء، وهم أولاء يدفعون بالفعل ذلك الثمن الفادح من أمنهم ولقمة عيشهم في آن واحد. وما كانت الأهداف الكبري لهذه الثورة أن تُجري انتخابات برلمانية بهذا الشكل الذي لم يختلف كثيراً عن انتخابات ما قبل الثورة، إلا أن الناس قد خرجت لتعلن رغبتها في خلخلة الوضع القائم، وكأنهم يصرخون في بيداء شاسعة نريد الأمن ولقمة العيش حتي ولو كان هذا هو الثمن، نعم هم يستغيثون ولا أحد يجيب، هم يغلون غلي المرجل، والساكن لا يتحرك، ولم يجدوا أمامهم إلا الذي يقول العدو أمامكم والبحر وراءكم، خرج الناس وكأنهم يعلنون رفضهم لاستمرار القيد الذي وضعهم في مواجهة الفوضي والخارجين علي القانون والفجرة الذين أطلقتهم أجهزة الأمن ليؤدبوا الشعب علي ثورته.. وكلنا يعلم ما النتيجة التي يجنيها الناس الآن، وكيف وصلت الأمور إلي صدام مُخزٍ بين الشعب وبين جيشه الذي كان بالأمس يحمي أرواحهم ويؤمن نجاح الثورة، ويأخذ بيد الثوار ويضمد جراحهم، هكذا كان المشهد، كان اللواء يمسح الدماء النازفة ويداويها فما الذي جري حتي ينكأها اليوم، الثورة كانت في طريقها كالسهم المُسدد نحو الرمية، فإذا بنا اليوم نضل الطريق ونرتد إلي أنفسنا فيعاقب بعضنا البعض، أعلي هذه اللحظات الخالدة؟!.. أم أن هذا »التعظيم سلام« الذي هز الوجدان وحرك الأفئدة لأرواح الشهداء قد فارق خيالنا هو الآخر، لأن فئة تريد أن تمحو هذه الذاكرة تماماً وتثير الأحقاد والضغائن والخصام بين الشعب وجيشه، إنني أتمسك بهذه اللحظات.. أريد أن يبثها الإعلام من جديد، أريد للثوار أن يلوذوا بروح التضحية التي بدأوا بها المشوار وأن يمنحوا مساحة التسامح المطلوبة للمجلس الأعلي أن يثبت حسن النية، ولعل ذلك قد يهدينا إلي أقرب من هذا الصراع الدائر رشداً، حيث لا مستفيد من ورائه إلا طرف واحد لا يريد لهذه الثورة أن تنجح أو تستمر في طريقها إلي أهدافها الكبري التي لم يتحقق منها إلا هدف واحد هو سقوط رأس النظام. الديمقراطية المنقوصة.. والبطاقة الدوارة هذه الأساليب تم ابتكارها علي مدي ستين عاماً من شياطين الاتحاد القومي بالاتحاد الاشتراكي فالمنابر فحزب مصر فالحزب الوطني، التزوير والتغييب وخداع الناس بشتي الطرق والوسائل، حتي وصلنا إلي نفس النتيجة بعد ثورة يناير، فالمنشور علي صفات الجرائد والمواقع الالكترونية يؤكد أنه تم ضبط أحد الناخبين يضع ورقة في الصندوق بديلاً عن بطاقة الانتخاب ليخرج بالبطاقة وليدخل بها شخص آخر فيضعها في الصندوق ويخرج بدوره ببطاقة جديدة.. وهكذا دواليك، وتم الإشارة بأن هذه العملية كانت تتم لصالح مرشح ينتمي لحزب الوفد، وأعلن عن اسمه صراحة، والعجيب أنه لم يصدر بيان عن حزب الوفد ليقول لنا موقفه من المرشح والناخب، وكنت أتمني أن يعرف الشعب الحقائق بعد تحقيقها والتأكد من أطرافها، ثم ما العقاب الذي يجب أن يناله المخطئون؟ أم أن التجاوزات مباحة بما أنه قد سمح بتأسيس أحزاب علي مرجعية دينية أو كما سُمح للأحزاب أن ترفع الشعارات الدينية في الانتخابات دون أن يكون هناك أي موقف من الذين أجريت الانتخابات تحت إشرافهم، شيء محير بالفعل، أم أننا مازلنا نعيش عصر ديمقراطية الحزب الوطني. رد الاعتبار في التحرير.. والضرب في العباسية الاختراع المؤسف الذي سُمي »العباسية« هو من فعل إضرام النار في هذه الثورة فالجيش المصري مؤيد من كل الشعب المصري والثوار أنفسهم هم أول من يعرفون ذلك، وقادة الجيش موقرون منا جميعاً ولا أحد ينكر هذا، وإن الذين يريدون قسمة الشعب المصري، أقول لهم إنها قسمة ضيظي، والمشير ليس في حاجة لمن يؤيده أو يغريه بمنصب رئيس الجمهورية، وتم إعلان ذلك أكثر من مرة، حيث نفي تماماً رغبته في الحكم أو استمرار المجلس العسكري في إدارة شئون البلاد، فعلي العباسيين أن يكفوا، وعلي أصحاب المبادئ وأولي الألباب أن يسعوا في الخير بين المجلس العسكري والثوار الحقيقيين الذين تعرضوا لحملات التشويه وتم اغتيال العشرات منهم بأيد آثمة ترجو لهذا الصدام بين الجيش والثوار أن يدوم وأن ينتهي إلي حرب أهلية، أعيدوا الاعتبار لثوار التحرير.. وقولوا لهؤلاء الذين اعتدوا علي الصحفيين والإعلاميين في العباسية، كفي للوقيعة.