النسيان يلتهم الأيام.. السنوات.. الذكريات.. البشر يتواري ويشحب الأمس المدبر بكثافة لحظاته المرصعة بالبهجة والأسي.. بالنشوة والحسرة تحت وطأة طبقات من الغيوم لا تترك لنا إلا متاهة من البقايا تتجلي في ومضات خاطفة، براقة تختزل الماضي في حفنة من اللحظات المدمجة، صور تارة زاهية ملونة وتارة ضبابية ومهترئة بفعل الغول المتربص الساكن في أعماقنا اسمه النسيان.. ولكن للنسيان ذاكرة انتقائية تكتنز ما يحلو لها وتختلف من شخص لآخر، حتي إذا شاركت ذات اللحظة ونفس الحدث مع آخر ستكون الذكري مغايرة والتفاصيل مختلفة وعملية اقتناء ما كانت مدهشة في تباينها.. نغوص في النسيان فيتآكل الأمس ونعجز عن الاستغراق في الحاضر والتلذذ به فثقل الغد المجهول ومخاوفه يلتهم اللحظة الراهنة.. الواهنة.. الفانية.. منذ بضعة أيام عرض فيلم “شيء في حياتي” للثالوث الذهبي فاتن حمامة، بركات ويوسف السباعي، إنتاج 1966 ليشعل فيّ كل ما يمكن إشعاله.. شيء في حياتي أيقظ خزائن المخيلة والذاكرة الخاملة. صقيع هذه الشتوية غير مألوف في مصر.. مساء زاعق البرودة تكاد تحاكي بروددته الأشعة في اختراقها للعظام.. فقط يشعرني بالدفء أن أتدثر بأفلام الأبيض والأسود، نوستالچيا ترمم الخواء والغربة حتي في قلب الصحبة.. “شيء في حياتي” ليس بالفيلم الاستثنائي للرائعة فاتن حمامة ولكن الفيلم الحقيقي الاستثنائي هو كيف كانت مصر، كيف كنا ثم أصبحنا.. حالة وأجواء مغايرة تماما، مصر عام 1966 أي قبيل الهزيمة بعام.. الأحداث تقع في الإسكندرية تبدو مدينة بحرية قصية، عصية علي إدراك ما ألم بها.. كل شيء نظيف، محطة القطار تضوي القطار، البوفيه وفناجين القهوة البراقة تشي بالذوق الرفيع والذائقة الجمالية في كل مظاهر الحياة، سيدي جابر أقرب إلي لوحات ديلڤو أشهر فنان رسم القطارات في العالم.. قبيل التكاثر المروع للبشر الذي التهم الأخضر واليابس والجمال وفرض التطبيع مع القبح واعتياد الحواس علي تجرعه فانتصر علي صرخة د.يوسف إدريس في “أرخص ليالي” عام 1957 ولم تفلح تلك الاستغاثة الأدبية الفذة في ترويض وقمع هذا الخطر الداهم المتمثل في غريزة أنانية منزوعة الوعي والإدراك.. وأعود إلي “شيء في حياتي” المقتبس عن فيلم بريطاني شهير يحكي عن زوجة جميلة تعيش حياة مستقرة، رتيبة، الزوج عدلي كاسب برع في أداء هذا الدور فهو لا يشبع ما تتطلع إليه أنثي، رقيقة، مليحة تقتفي أثر العاطفة المتأججة، تلتقي في محطة القطار وهو المكان والرمز الأصيل للوصول.. الانتظار ثم الرحيل هو الرحم للقاء والفراق.. تلتقي فاتن بالطبيب الشاب إيهاب نافع، الوسيم شقيق صديقتها منذ أيام الدراسة، تستيقظ الأنثي الخاملة ويشتعل الصراع الأزلي بين الرغبة والضمير، المتعة والعذاب، المقاومة والسقوط من خلال مشاهد في مدينة مسحورة، أقرب إلي الخيال حيث الشواطئ كلها بديعة، الكائن الأزرق المهول متاح للجميع يلوذ به العاشق القابع علي حافة الهوي والحزين الباحث عن السلوي في أحشائه والرومانسي الطامع فحسب النسيم البحري المرصع بالملح والخيال ووشوشة الأمواج الصاخبة.. نادي السيارات في “ذروة” ألقه حيث مياه البحر تصب في حمام السباحة.. هنا تطفو ذاكرة النسيان الخاصة بي يرتد إليّ الزمن المفقود، استرجع صيفية نادي السيارات مع أمي وفيلسوف الشعب الذي جسد بهجة الأسي أحمد رجب وزوجته السيدة عصمت مع الأستاذ موسي صبري والمستشار رئيس محكمة النقض الأسبق وجدي عبدالصمد .. رائحة البحر.. الشماسي ذات التقليمة الزاهية، صوت الضحكات يتداخل مع صخب الأمواج وكأنهما سيمفونية لبهجة الحياة المنسابة، اللاهية عما هو آتٍ، كان الأستاذ موسي صبري يخاف جدا من الماء فكان يتعمد نزول حمام السباحة عندما يصبح تقريبا خاليا من المياه وكان الأستاذ أحمد رجب يتقاسم الضحكة مع الضحكة المميزة للأستاذ موسي صبري كانت عكس كل الناس تبدو ضحكة إلي الداخل. وأعود لشيء في حياتي.. شيء في بلادي.. تري كم من الأشياء حدثت؟ النساء وأولهن فاتن حمامة ترتدي الفساتين والتايورات الأنيقة، تبرز الأنوثة برقي ونعومة دون ابتذال، لا وجود لإسدال أو نقاب أو صراع علي أقمشة، كبديل وتعويض عن الضمير وأحيانا الفضيلة، المبادئ وعملية إحلال ممنهجة والأفئدة التي صارت أقرب إلي الحجر الصوان، ففتنة الأثواب لا علاقة لها بضمير الزوجة اليقظ، لقد قررت عدم السقوط ويبدو جليا الإسقاط في المشهد الرائع عندما تذهب مع إيهاب نافع إلي شقة صديقه وتصبح علي حافة السقوط تفر هاربة تهبط الدرج كي لا تهبط في هوة الخيانة تكاد تسقط وهي تتجنب صندوق القمامة وكل منظومة القبح. نلاحظ أيضا غياب البنطلون الچينز من الحياة آنذاك، فالأثواب المزهرة، والشياكة الأنثوية عنوان المرحلة.. ولقد نجحت الصهيونية العالمية في فرض زيها المكتسح المتغول في أنحاء العالم، ويرجع الچينز إلي الألماني اليهودي ليڤي شتراوس الذي هاجر إلي سان فرانسسكو في منتصف القرن التاسع عشر وبدأ في صناعة “العفريتة” الچينز أو “الأفرول” لطبقة العمال وعمال المناجم في 1853 ثم امتد الولع إلي رعاة البقر ونجحت الفكرة وشارك ليڤي آخر يدعي يعقوب، وانتشر الچينز نظرا لصلابة القماش ومتانته والمسامير علي الجوانب وكان آنذاك حكرا علي الرجال وفيما بعد بدأت النساء يصبحن مولعات بهذا الزي الأزرق الذي وحد بين الجنسين وبين الطبقات ويقال إنه كان في البداية قماش الخيام ويقال الكثير والله أعلم وقام ليڤي بالتبرع لمراكز الأبحاث في الجامعات وجمعيات الصم ولكن لا أحد ينكر أنه زي عملي ييسر الحركة ويتمتع بالجاذبية ولكنه يقتات علي أرصدة الأنوثة الغاربة منذ النصف الأخير من القرن العشرين وصولا إلي الچينز المهترئ محاكيا النمط الإجباري للمتسول.. وأعود إلي أيقونة السينما المصرية فاتن حمامة وسعادتي الغامرة أخيرا بتمثالها، للنحات عصام درويش الذي زين دار الأوبرا خاصة أنه احتفظ بطلتها الأنثوية ولم يحجب الجانب الفاتن في تكوينها الجسدي.. وأعود لغريمنا الأزلي وتلك المطرقة الجهنمية المسماة زمن وتابعها النسيان إلا قليلا من الومضات المسحورة ، أذكر سطور نجيب محفوظ في الحرافيش.. عاشر الزمان وجها لوجه بلا شريك.. بلا ملهاة ولا مخدر.. واجهه في جموده وتوقفه وثقله.. إنه شيء عنيد ثابت كثيف وهو الذي يتحرك في ثناياه كما يتحرك النائم في كابوس.. أنه جدار غليظ مرهق متجهم.. غير محتمل إذا انفرد بمعزل عن الناس والعمل، كأننا لا نعمل ولا نصادق ولا نحب ولا نلهو إلا فرارا من الزمن، الشكوي من قصره ومروره أرحم من الشكوي من توقفه. في جعبة كل منا خبيئة.. في ركن سري.. خفي حتي عن أنفسنا مفاجآت تكتنزها ذاكرة النسيان فتشوا عنها إنها الملاذ والمرفأ في أحلك اللحظات والمحن، والشيء يستدعي شيئا آخر مغايرا تماما يفتح الأبواب الموصدة لتتجلي وتبعث نفائس الذكريات.. الخيالات ..البشر والعبر.