الصحافة حكاية عمري. عرفتها وعشقتها في سن صغيرة. في بدايات سبعينات القرن الماضي ورغم انزواء قريتنا حاجر أبو ليلة بسوهاج في حضن الجبل الشرقي، إلا أنني استطعت أن أحصل علي نسخة أسبوعية من أخبار اليوم كنت أرسل لشرائها من مركز ساقلتة حيث لم تكن توجد وسائل مواصلات منتظمة ولا يوجد بائعو صحف في قريتنا. كانت أخبار اليوم مدخلي إلي هذا العالم الساحر، عالم الصحافة. جذبتني حكايات مصطفي أمين وإحسان عبد القدوس وموسي صبري. سيطرت عليي الصحافة وجذبتني كما لو أن دوامة ابتلعتني في عالمها ولم أخرج منها حتي الآن. بجانب هذا العشق سعيت للالتحاق بقسم الصحافة بجامعة سوهاج التي كانت فرعا لجامعة أسيوط وقتها ولم يكن في ذاك الوقت أقسام للصحافة إلا في كلية الإعلام بجامعة القاهرة وفي صحافة سوهاج. من اللافت أنه رغم بعد المسافة إلي سوهاج من القاهرة أو محافظات الدلتا إلا أنني وجدت عددا كبيرا من زملائي الأعزاء التحق بقسم الصحافة، منهم من سبقني ومنهم من لحقني. تركوا بيوتهم وعائلاتهم لدراسة الصحافة وهو أمر يؤكد أن الصحافة دوامة ساحرة تجذب مريديها وتلحقهم ببلاطها فلا يستطيعون منها فكاكا. كنا من الدفعات الأولي التي تخرجت في هذا القسم الذي بدأت الدراسة فيه في أواخر سبعينات القرن العشرين. وبعد ما يقرب من أربعين عاما من افتتاح القسم في أعماق الصعيد، صار هناك صحفيون في كل جريدة ومجلة من خريجي قسم الصحافة بسوهاج. فرع جامعة سوهاج كان فقيرا في إمكانياته، لكن داخل القسم كانت هناك حالة من الوجد والعشق يعيشها الطلاب مع الصحافة. أذكر أن زملائي الذين سبقوني كانوا نواة تأسيس جريدة صوت سوهاج التي كانت بمثابة معمل تفريخ المواهب وتدريب صحفيي المستقبل وأذكر بالخير هنا من أسسوا قسم الصحافة بسوهاج ومنهم الدكتور منير حجاب ومن أسسوا جريدة صوت سوهاج وعلي رأسهم أحمد عبد العال الدردير حيث أتيحت لنا الفرصة كطلاب بقسم الصحافة لممارسة المهنة قبل التخرج. أذكر المرة الأولي التي نشر فيها اسمي ( كتب :.......) كان أول خبر ينشر لي وفي نفس العدد نشر زميل آخر خبرا وهو لا يعمل بالصحافة حاليا، كنا في السنة الأولي وبعد نشر الخبرين احتفلنا مع زملائنا في القسم بكوننا أو اثنين من الدفعة يمارسون المهنة عمليا. عدد خريجي القسم صاروا آلافا، وحتي لا أنسي أيا من زملائي سأشير إلي من شق طريقه حتي وصل إلي قمة العمل الصحفي وصار رئيسا للتحرير ومنهم من صار مذيعا مشهورا ومنهم من أصبح شاعرا عالميا ومنهم من يمارس العمل الإعلامي أو يكتب الأدب أو الدراما وكثيرون صاروا من كبار المستشارين الإعلاميين. كانت الدراسة في قسم الصحافة بداية، ومن خلال خطاب من الكلية لجريدة الأخبار، التحقت بالعمل بها محررا بقسم التحقيقات. تعلمت أبجديات الصحافة الاحترافية في هذا القسم الذي كان يضم عمالقة رحمهم الله جزاء ما قدموه لنا وما علمونا. بعدها شرفت بالعمل في القسم البرلماني والحزبي مع أساتذة كبار زادوا من معرفتي بالصحافة. في داخل مجلس الشعب عرفت مصر من داخلها. تعاملت مع السياسة والسياسيين وخبرت كيف تدار الأمور. شاهدت بزوغ وصعود واختفاء سياسيين بدأوا صغار ثم كبروا ومنهم من لم يفهم ويتقن لعبة السياسة فاختفي. السياسة ليست لعبة الهواة، ومن لا يتقنها يذهب سدي ولا يذكره التاريخ. وصلت إلي قمة العمل الصحفي بعدما عينت رئيسا لتحرير المجلة العريقة، آخر ساعة. خلال عملي بالصحافة عاصرت ماكينات الجمع بحروف الرصاص ولما وصل إلينا البرومايد، كان فتحا كبيرا رحم صدور الناس من الرصاص ورؤوسهم من الضوضاء، بعدها جاء الكمبيوتر. هذه المراحل مرت بها الأجيال كل منها يسلم من جاءوا بعده لكي تستمر الصحافة، المهنة والعشق والحياة. أدعو الله أن يحمي مهنتنا.