الفن الحقيقي بكافة أشكاله رسالة قبل أن يكون مصدرا للكسب والاسترزاق، وهو لسان حال المجتمع في أوقات المحن والأزمات، وفي الأفراح والمسرات، هو جزء من حياة الشعوب؛ من خلاله يمكن أن تحكم علي مدي رقي وتقدم منظومة القيم في مجتمع ما، فالمجتمع الذي يقدم فنونا راقية، تسمو بالمشاعر الإنسانية، وتنير العقول، وتشكل الوعي، هو بالقطع مجتمع تحكمه منظومة قيمية سامية، والعكس صحيح؛ فحين يسود الإسفاف والفن الهابط، الذي لا هدف له سوي جمع الأموال، ويطغي علي الذوق العام في المجتمع، فأعلم أن هذا المجتمع يعاني خللا كبيرا في منظومته القيمية. وبهذا المعني يري الكثيرون أن الفن أحد أهم المصادر التي يعتمد عليها علماء علم الاجتماع للتأريخ الاجتماعي لشعب ما، فالفن الحقيقي هو الذي يرصد ويعكس حركة تطور المجتمعات صعودا وهبوطا عبر تاريخها، ولكن الفن دوره لا يتوقف عند هذه الحدود؛ فالفن أيضا يمكنه أن يؤثر سلبا وايجابا في تطور المجتمعات. ولقد فطن رجال السياسة والحكم منذ فجر التاريخ لهذا الدور الذي يمكن أن يلعبه الفن في التأثير علي الشعوب، فحاولوا أن يسخروا الفنون للتعبير عن أفكارهم، والترويج لانجازاتهم. وفي العصر الحديث، ومع تطور وسائل الاتصالات والإعلام، التي جعلت من قدرة الفنون علي الانتشار والتأثير أكثر قوة، وهو ما دفع الحكومات، والقوي السياسية، والاقتصادية، وغيرهم ممن يتوجهون برسالتهم للجمهور أن يحرصوا علي أن يكون لهم ظهير إعلامي وفني يعبر عن توجهاتهم، ويروج لأفكارهم. وحين نتأمل تاريخ مصر المعاصر؛ نجد أن الفنون المصرية لم تكن مسيسة بشكل واضح، فقد كانت تحاول تقليد نظيرتها في الغرب، وكانت تهدف لإمتاع متلقيها أكثر من توجيه رسالة معينة، باستثناء بعض الحالات الجديرة بالاحترام مثل حالة فنان الشعب سيد درويش، وأمير شعراء العامية بيرم التونسي. إلا أن الفترة التي تلت ثورة 23 يوليو 1952 شهدت انخراطا كبيرا للفنون المصرية بكافة تنويعاتها في الشأن السياسي؛ فقد كانت حاضرة في كل الأحداث الكبري التي مرت بها مصر الثورة مساندة وداعمة للدولة والمجتمع، هادفة لرفع الروح المعنوية للشعب، وبث روح المقاومة، والانجاز، والتحدي. وجميعنا نتذكر الأغاني، والأفلام، والأعمال الدرامية الوطنية التي ظهرت في تلك الفترة إلي الآن، ولا يزال الوجدان المصري يستدعيها إلي في كافة مناسباتنا الوطنية. ولقد أدرك قادة يوليو وعلي رأسهم الزعيم جمال عبد الناصر، أهمية وخطورة الدور الكبير الذي يمكن أن يقوم به الفن في تشكيل وعي ووجدان الجماهير. ورغم ما قيل - افتراءً - عن تضييق نظام الرئيس جمال عبد الناصر علي المبدعين والفنانين فقد قدم هذا النظام دعما لا محدودا للنهوض بالفنون بكافة أنواعه، وشهدت انشاء صروح فنية كبري، ما زالت تفيض بأنوارها علي العالم العربي أجمع إلي الآن؛ التي خلقت نهضة فنية وثقافية غير مسبوقة، صنعت لمصر قوة ناعمة لا تقل أهمية عن قوتها العسكرية، والاقتصادية، مازلنا نستفيد بتداعياتها الإيجابية إلي الآن. ولعل جميعنا يدرك كيف ساهم الفن المصري في ترسيخ محبة واحترام مصر في قلوب ملايين العرب عبر أجيالهم المختلفة، فمازالت »سهرة الخميس» تعيش في ذاكرة ملايين من المصريين والعرب. من منا لا يحفظ عن ظهر قلب أغنية صورة أو بالأحضان أو السد العالي لعبد الحليم حافظ؟! من منا لم يشاهد فيلم الناصر صلاح الدين؟! من منا لم يقرأ لكبار كتاب مصر الذين لمعوا في ظل ثورة يوليو؛ نجيب محفوظ، يوسف ادريس، احسان عبد القدوس، محمد حسنين هيكل، أحمد بهاء الدين، صلاح جاهين، عبد الرحمن الأبنودي، السيد حجاب، صلاح عبد الصبور وغيرهم المئات والآلاف من كبار مثقفي وعباقرة مصر. مصر عبد الناصر كانت قبلة مبدعي ومثقفي العالم العربي، كل من يريد النجومية والشهرة، أطلقوا عليها هوليود الشرق، احتضنت مصر الجميع دون تمييز. واليوم، ينتابني حزن شديد حين أرصد وضع الفنون في مصر، وتداعياتها السلبية الخطيرة والمدمرة علي المجتمع المصري، لا سيما فئة الشباب، علاوة علي دورها الغائب في مساندة الدولة علي الخروج من أزماتها، ومواجهة التحديات التي تواجهها، وحشد طاقات المجتمع خلف مشروع النهضة المصري الذي يتبناه السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، ومن خلفه ملايين المصريين. ولا مفر من الخروج من تلك الكبوة، إلا بعودة الدولة مرة أخري لدعم الفنون والثقافة بكافة أنواعها، وأن تفعل من دور مؤسساتها الفنية وأجهزتها الرقابية ذات الاختصاص، لاستبعاد كل دخيل علي الفن، وكل من يفسد الذوق العام. فالأمر جد هام وخطير.. اللهم بلغت اللهم فاشهد.