كنت طفلاً، يكاد ينطبق عليه وصف الشاعر الكبير / فؤاد حداد : "عيوني أوسع.. من هدوم العيد"، ويحضرني في ذلك حادثة لازالت فصولها محفورةً في ذاكرتي، وتفاصيلها منقوشةً في وجداني، وأعتقد أنها لن تمحي من مخيلتي، ما حَيتُ، لم يكن عمري حينها يتعدي الثمانية أعوام، وكنت حينذاك تلميذاً في مدرسة المرقسية الخاصة، وكانت لدي معلّمة تدعي "مارسيل" تبلغ من العمر عشرين عاماً، كنت شديد التأثر بها، ولا أنكر حقيقة أنني قد استقيت مبادئي الأولي من فيض نبع عمقها، فكانت عندما تحدثني عن قصّة ميلاد "يسوع"، وعن كل ما لاقاه في حياته فيما بعدُ من شقاء وعناء من أجل إيصال رسالته للإنسان، كانت تنتابني حالة من الفزع والحزن الشديد، وكنت أشُفق عليه كثيراً، لما سيتعرض له عندما يشب، وفي أحد الأيام، وأثناء احتفالات المدرسة بعيد الميلاد المجيد، قاموا بصنع مغارة كبيرة للميلاد، من الورق البني المموج الذي يحاكي لون المغارة الطبيعي، كتقليد يعود إلي القديس فرنسيس الأسيزي الّذي قام بتجسيد أول مغارة حيّة في ميلاد سنة 1223 ب.م، وبداخل المغارة وضعت مجسمات متناهية الصغر ليوسف ومريم والرعاة والمجوس والنجمة والبقرة والحمار والأغنام والملائكة ورموز أخري تشير إلي مغارة ميلاد "الطفل الإلهي"، وعلي مقربة منها كانت تتألق "شجرة الميلاد" بحلتها الجديدة، وألوانها المبهجة، وكان يقبع في أحشاء المغارة "الطفل الإلهي" بملامحه البريئة، في العراء، وجميع من حوله منقادا لإشراقة وجهه الملائكي، فنظرت من فوّهة المغارة، فتفتق ذهني إلي حيلة لِأُخَلِّصَ الطفل "يسوع" من مصيره الذي سوف يلقاه، فقررت أن أسرقه، وفي غفلة من الجميع، مددت يدي الصغيرة المرتعشة، صوبه، وحملته برفق وتنهدت: "الآن خلصتك يا يسوع"، ومن ثمَّ أخفيته في أحد جيوب معطفي السرية، ولم يمض وقت طويل، حتي أصيب جميع من بالمدرسة بحالة من الذعر والهلع، وطفوا يبحثون عن الطفل "يسوع" في رحلة مضنية، في جميع أرجاء المدرسة، بلا أدني جدوي، حتي حضرت إلي معلّمتي "مارسيل"، لتسألني عن الطفل "يسوع"، ﻓﺎﻣﺪدتﻳﺪي ﺗﺠﺎه ﺼﺪري، وأخرجته من جيبي، ونظرت إليها بحزن، فقالت لي متسائلة : "كيف تجرؤ علي سرقة يسوع"، فأجبتها بكل براءة : "لكي أخلصه من هذا العذاب، الذي سوف يلقاه عندما يكبر، ومددت يدي المرتجفة، وربطت عليه برفق وبكيت"، فضمتني إلي صدرها بحنية منتهية، وأكاد أجزم بأنني إلي اليوم، وأنا في العمر الذي لي، فمازال منظر الطفل في المغارة يثير فيّ ذلك الحزن البعيد، مازلت أري المَسيح حَزِينا علي دماء بني الإنسان المراقة علي الأرض".